في أكتوبر 1989 أبرق الكولونيل في الاستخبارات الخارجية الروسية فلاديمير بوتين، العامل في برلين الشرقية، إلى قيادته في موسكو بضرورة التحرك لإنقاذ الموقف تجنبا من حصول الأسوأ. لكن القيادة، التي خيبت أمله ولم تستجيب لطلبه، دفعته بعد عقود إلى اعتبار أن سقوط جدار برلين ثاني أسوأ لحظة في تاريخ روسيا السياسي والاستراتيجي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
وبعد 30 عاما على تظاهرات برلين يشاهد القيصر الروسي من نوافذ الكرملين، التي تطل على شوارع وسط المدينة، تظاهرات المعارضة الروسية غير المدجنة التي كسرت جدار الخوف وأعلنت عن استمرار التظاهرات الاحتجاجية ضد قرارات الحكومة والفساد وقمع الحريات، ومستفيدة من تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها النظام، ولجوئه إلى سياسة القمع تجنبا لتقديم أي تنازلات للمعارضة.
من جهتها، بدأت المعارضة بتنظيم خطواتها للاستعداد لمرحلتين أساسيتين مقبلتين هما الانتخابات البرلمانية سنة 2021 والانتخابات الرئاسية سنة 2024، التي سيخوضها الكرملين تحت وطأة أوضاع اقتصادية صعبة بات تأثيرها واضحا على الاقتصاد الروسي بعد الفشل في تطبيق وعود بوتين بانتظام مستويات المعيشة، وتحسن الاقتصاد الذي يعاني منذ 2014، حيث لم تتخط معدلات النمو في السنوات الأربعة السابقة أكثر من 0٫5% خصوصا أن بوتين بعد إعادة انتخابه سنة 2018 تعهد بالعمل على رفع معدل النمو إلى 3% سنويا حتى نهاية ولايته الرئاسية سنة 2024.
ويواجه الاقتصاد الروسي يواجه أزمة ارتفاع الديون الداخلية، وهي أزمة دفعت وزير التنمية الاقتصادية مكسيم أوريشكين في 21 يوليو الفائت إلى القول "إنه بسبب حالة الركود أتوقع انهيارا اقتصاديا بحلول سنة 2021 إذا استمرت طفرة إقراض المستهلكين". كلام أوريشكين السلبي عن الحالة المالية والاقتصادية استدعى ردا من البنك المركزي ومن الحكومة التي كانت تتوقع تسارعا في وتيرة النمو هذا العام بعد استئناف ضخ الأموال الحكومية، حيث كان الرهان بأن تحقق نموا بمستوى 3.1% نهاية سنة 2021 (سنة انتخابات مجلس الدوما أي البرلمان).
يرى أوريشكين أن هذا لن يحدث إذا لم يتحرك البنك المركزي للسيطرة على ما يمكن اعتباره فقاعة خطيره في إقراض المستهلكين. ولكن حاكمة البنك المركزي الروسي ألفيرا نابيؤلينا ردت على كلام أوريشكين بأن "المخاوف بشأن القروض الاستهلاكية في غير محلها ولا توجد أي مؤشرات لفقاعة اقتصادية".
يكشف التراشق بين مسؤولين حكوميين الخلافات الحادة حول السلطة النقدية، خصوصا أن الأرقام تظهر نمو ديون المستهلكين بنسبة 25% أي 1.8 ترليون روبل (28 مليار دولار) سنة 2019 الأمر الذي دفع إلى تقليص مستويات المعيشة بالنسبة إلى ثلث سكان روسيا لأن سداد الديون يستهلك أكثر من 60% من دخلهم الشهري، ويلجأ البعض منهم إلى إعادة هيكلة ديونهم بالاقتراض من جديد، وهذا ما يؤدي إلى التأخير في سداد ديونهم، الأمر الذي يؤكد أن كافة جهود البنك المركزي لكبح جماح طفرة الاقتراض لم تنجح حتى الآن.
فتح موقف أوريشكين جدلا سياسيا آخر، بعدما اعتبر نائب وزير الاقتصاد السابق أليكسي فيديف "أن خطر الإقراض وتحفيز النمو الاقتصادي مشكلتان مختلفتان"، وأضاف "أن الوزير أوريشكين هو سياسي ويجب عليه أن يشرح لماذا لم يتم تنفيذ مرسوم الرئيس" الاقتصادي لعام 2018 الذي يفترض نموا أعلى من 3٪. بعد تنفيذ خطة إنفاق بضخ 400 مليار دولار تساعد في إنعاش الاقتصاد. فقد ضم المرسوم الرئاسي 13 مشروعا استراتيجيا وزيادة الإنفاق على البنية التحتية والصحة والتعليم سنويا من عام 2019 إلى 2024 بنسبة 1.1% من الناتج المحلي، ولكن الحكومة قامت بإجراءات غير شعبية من أجل تمويل مشروعاتها الوطنية الكبرى فرفعت ضريبة القيمة المضافة ابتداء من سنة 2019 وأعلنت عن إصلاح نظام التقاعد الذي وجهه برفض شعبي أدى إلى انخفاض حاد في شعبية الرئيس.
وفقا لحسابات صندوق النقد الدولي فقد كان بإمكان الاقتصاد الروسي أن ينمو بمعدل 1.1 في السنوات الأخيرة لولا ثلاثة عوامل هي العقوبات الغربية على ضم شبه جزيرة القرم، وانخفاض سعر النفط وارتفاع نسبة التضخم، والتي انعكست سلبا على الأوضاع المالية والاقتصادية لروسيا، التي لم يتجاوز نموها الاقتصادي 0.5% ما بين 2014 و2018.
في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي لم تفلح السلطات السوفياتية وأجهزتها السياسية والأمنية في حل مشاكل الروس المعيشية، حيث كان المواطن الروسي يقف لساعات للحصول على "الباطونشك" (نوع من الخبز الروسي). وفي سنة 1989 بدأت السلع الأساسية تختفي من الأسواق التجارية، فحاول الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف استثمار علاقته الشخصية بالمستشار الألماني الأسبق هلمت كول ومحاولة إقناعه بإقراض روسيا 4 مليارات مارك ألماني من أجل تسديد معاشات الدولة، ولكن تحذيرا من البيت الأبيض دفع المستشار الألماني إلى طلب المساومة ما بين القرض وإلغاء شروط موسكو على ضم ألمانيا الموحدة إلى حلف الناتو، فتنازل غورباتشوف عن الشروط، لكن واشنطن منعت "بون" من إقراض موسكو واستخدمت الأزمة الاقتصادية في معركة انتصارها النهائي في الحرب الباردة.
واليوم يواجه القيصر المحاصر اقتصاديا معارضة أسقطت جدار الخوف في موسكو كما أسقط الألمان جدار برلين منذ 30 عاما فهل تنجح في أهدافها أم أن خيار القمع سيحدد مستقبلها كما سيحدد مستقبل الإمبراطورية...
*نقلا عن موقع قناة الحرة