لا توجد في إيران دولة عميقة، بل دولة مُسيرة فرضتها بيروقراطية نظامية تاريخية أدارت المجتمع والدولة، ولم تأخذ الدولة المُسيرة في إيران هيكلية واضحة منتظمة كتلك التي كانت لدى جارتها العثمانية، بسبب تغير أشكال الحكم وتبدل العواصم في الأنظمة السلطانية التي حكمت سكان الهضبة الإيرانية خلال قرون، ومن المرجح أنها تبلورت بعدما تمكن الحاكم الصفوي من فرض حدود دولته الجديدة على أساس جيو - عقائدي جعله عاملاً لوحدة الشعوب الإيرانية.
هذه الجغرافيا العقائدية ورثها الحكم القاجاري الذي التزم بفكرة الدمج بين الهوية العقائدية والجغرافيا الموحدة للتراب الإيراني، ونجح في الربط بين الجيو - عقائدي ونظام الحكم، فانتزع السلطان القاجاري التأييد بوصفه حامي العقيدة والجغرافيا. وفي مطلع القرن الماضي حاول الشاه رضا بهلوي في مرحلة ما بعد الدولتين (القاجارية وجارتها العثمانية) تمدين الدولة والمجتمع في إيران نتيجة تأثره بحركة صديقه مصطفى كمال أتاتورك، لكنه وُوجه بضغوط من فضلاء الحوزة الدينية في قُم ومن أعيان البازار في طهران، فتراجع عن مشروع إعلان الجمهورية الإيرانية على غرار الجمهورية التركية.
وفي المرحلة البهلوية استخدمت النخب السياسية والثقافية مكانة التاج الشاهنشاهي عاملَ وحدة للشعوب الإيرانية. أما في ثورة 1979 فقد نجح آية الله الخميني في الدمج بين التجارب الثلاث التي سبقت نظامه الإسلامي، فقدم نظام ولاية الفقيه بوصفه هويةً عقائدية للثورة والدولة، وجعل من موقع الفقيه (المعمم) على رأس السلطة رمزاً لوحدة الشعوب الإيرانية، خصوصاً بعد نجاحه في إقصاء شركاء الثورة من ليبراليين يساريين وعلمانيين ومدنيين، وقدم له صدام حسين خدمة لا تقدر بثمن عندما شن عليه حرباً وظّفها النظام الإيراني داخلياً في مشروع فرض هويته العقائدية داخل المجتمع الإيراني الذي كان مهدداً بالانقسام العرقي والجغرافي، عندما أعطته الحرب مشروعية بعد إعلان التعبئة ضدها باعتبارها حرباً «قومية – عربية؛ سنية - عقائدية» ضد «ثورة فارسية شيعية»، فاكتمل بذلك رسم الهوية العقائدية للدولة والثورة في إيران، التي عادت وانفجرت تناقضاتها في مرحلة آية الله خامنئي وتحولت إلى تيارات سياسية وعقائدية تتنافس على السلطة، ولكن بقيت حتى الآن تحت سقف الدولة المُسيرة التي تواجه لأول مرة في تاريخها معضلة الانحياز.
فمنذ التأسيس الجيو - سياسي لإيران على يد الدولة الصفوية التي استعانت بأتباع الطريقة «القزلباشية» لفرض حكمها، مروراً بلواء «الخالدون» الذراع العسكرية للتاج البهلوي، إلى «الحرس الثوري» المغطى بشرعية دستورية، لم تتمكن تاريخياً أي قوة عسكرية عقائدية في إيران من فرض إرادتها على الدولة والمجتمع، كما يفعل الآن «الحرس» بعد تمكنه من عسكرة النظام، ومن ثم عسكرة الهوية العقائدية رغم خسارتها موقعها بوصفها عامل وحدة بين الشعوب الإيرانية، التي قدمت سابقاً هويتها العقائدية المشتركة على حساب هويتها القومية، وفي الحالة الإيرانية المركبة والمعقدة يمكن الاستدلال بما قاله المفكر العراقي الراحل فالح عبد الجبار: «لا ريب في أن الهويات الدينية - المذهبية أقدم عهداً من الهويات الإثنية - القومية، وهي بالتالي سابقة لنشوء الدولة المركزية الحديثة؛ أي ما يسمى في الأدبيات السياسية السوسيولوجية الدولة الأمة». وعليه؛ فإن ظاهرة عسكرة الهوية العقائدية التي يمارسها «الحرس الثوري» عطلت إمكانات انتقال إيران إلى دولة حديثة، وعززت مفهوم احتكار العسكر للسلطة؛ احتكار يعرقل بناء الدولة الأمة، ويؤدي إلى تقليص دور الدولة والمجتمع في تكوين فضاء سياسي وثقافي مدني وتعددي.
ففي الأزمة، العلاقة المستعصية ما بين إيران والعالم وفي أخطر مراحلها التي تقترب من المواجهة المباشرة، تذهب العسكريتاريا الإيرانية بعيداً في تعزيز قبضتها على الدولة، وهو ما برز مؤخراً من خلال قيام المرشد السيد علي خامنئي بتعيين الشخصيات الأكثر راديكالية في مواقع مدنية وعسكرية مؤثرة، وذلك انسجاماً مع الموقف السياسي العقائدي الذي تتمسك به طهران داخلياً وخارجياً؛ حيث استطاع النظام أيضاً عسكرة الهوية العقائدية لأتباعه في مناطق نفوذه الخارجي، متذرعاً بحجة رفع المظلومية عن جماعات تتشارك معه مذهبياً وحمايتها، تحت غطاء مبدأ تصدير الثورة... مشروع يساعده على توسيع نفوذه خارج الحدود الوطنية، عبر الاستثمار بالهوية العقائدية العابرة للحدود والأوطان، واستغلالها أداةً لتهديد الوحدة الوطنية وفي تطويع الدول التي يعدّها ضمن فضائه الجيو - عقائدي، واستخدامها رأس حربة في معاركه التوسعية السابقة والدفاعية اللاحقة.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط