خرج مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران "على خامنئي" أخيراً عن صمته حين وجه انتقادات واسعة للتحالف الذي يقوم بعملية "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين في اليمن، مركزاً في كلمته على المملكة العربية السعودية، والتي شدد خلالها على أن السعودية لن تخرج منتصرة من هذه الحرب، واصفاً هذه العمليات بـ "الإبادة الجماعية" التي يمكن أن تنظرها المحاكم الدولية، ومشبها إياها بالجرائم التي قامت بها إسرائيل إبان عدوانها على "غزة"، كما تطرق للاتفاق الإطاري الأخير" ومستقبل المفاوضات النووية.
بعيداً عن مضمون الخطاب الذي ألقاه "خامنئي" بعد نحو شهرين عن آخر كلمة تحدث فيها بشكل علني عن أي أمر من الأمور، فإن المسألة الأهم والأجدر بالنظر إليها تتمثل في التوقيت الذي اختاره للإدلاء بخطابه، كذا المستهدفين من الخطاب. فقد زادت التكهنات في الفترة الأخيرة عن حقيقة الحالة الصحية للمرشد، مما زاد من الحديث عن مسألة الخلافة وكيفية انتقالها بشكل سلمي إلى شخص آخر حال وفاة المرشد أو عجزه عن الاضطلاع بمهامه ومسؤولياته، وصولاً للتكهن بالشخصية المرشحة لملء الفراغ الناتج عن ذلك، فضلا عن أن هذا الخطاب قد جاء في حضور عديد من رجال الدين المحافظين الذين لطالما انقسموا حول الانخراط في مفاوضات نووية مع الغرب، لاسيما أن الولايات المتحدة واقعياً هي من تؤثر في مسارها، وهو ما استلزم الدخول في عدد من الاجتماعات الثنائية بين المفاوضين الإيرانيين ونظرائهم الأمريكيين، فيما اعتبر من جانب أغلبهم انحرافاً عن النهج الذي اتبعه النظام الإسلامي في إيران منذ نشأته عام 1979 وعن منهج الإمام "الخميني" الذي شيطن الولايات المتحدة، والتحسب من تداعيات التخلي عن هذا المنهج على استمرارية النظام بشكله الحالي.
قضية خلافة المرشد في إيران
تثير مسألة خلافة المرشد الحالي للثورة الإسلامية في إيران إذن جدلاً واسعاً في الأوساط الإيرانية، لاسيما تلك المرتبطة بهيكل النظام الحاكم هناك، فهذه الإشكالية تحديداً تمثل معضلة تلقي بظلالها على مستقبل النظام ومدى قدرته على الاستمرار في هذا الظرف الخاص.
وبالنظر للمراقبين الذين يرون أن هذه المسألة محددة بآلية واضحة – كما تبدو – وأن الأمر سيسير بسهولة كما حدث بعد وفاة الإمام "الخميني" عام 1989، ويضعون سيناريوهات محتملة قد تكون بالفعل صحيحة؛ فإن الإشكالية لا تكمن في السيناريو المحتمل أو الشخص الذي سيقع عليه الاختيار لتولي هذا المنصب الأهم في المنظومة الحاكمة بإيران، وإنما تكمن المعضلة الحقيقية في كواليس الفترة الانتقالية التي سيعمل النظام على تجاوزها بأسرع وقت ممكن للحيلولة دون وقوع صراعات داخل النظام حول الأحقية بالنسبة لمن تتوافر فيه المعايير المطلوبة لهذا المنصب وعدم تكرار اللغط الذي أثير وقتذاك عندما تولى "خامنئي" أمور الإرشاد ومدى أحقيته في ذلك، لاسيما وأنه كان طرفاً رئيسياً في مسألة الإطاحة بآية الله "حسين منتظري" عن منصبه كنائب للإمام "الخميني" بمؤامرة مركبة ووشاية من الدائرة المحيطة بـ"الخميني" بعد اعتراضه على قتل نشطاء سياسيين معارضين عام 1988 وعزله عن منصبه وتحديد إقامته بمدينة "قم" حتى وفاته أواخر عام 2009، واتفاق عدد من كبار المراجع في "قم" على عدم أحقية "خامنئي" في هذا المنصب، وقد انعكس ذلك على محدودية الزيارات التي قام بها "علي خامنئي" لمدينة "قم" للحد من الهجوم الذي قد يتعرض له هناك.
دلالات انتخابات "مجلس الخبراء" الأخيرة
فاز رجل الدين المحافظ المتشدد آية الله "محمد مصباح يزدي" برئاسة مجلس "خبراء القيادة" في الانتخابات التي جرت يوم 10 مارس 2015 بحصوله على 47 صوتاً من أصل 73 من أصوات المشاركين في التصويت، ليخلف بذلك الرئيس السابق للمجلس آية الله "محمد رضا مهدوي كني" الذى توفي في أكتوبر 2014، متفوقاً بذلك على رئيس مجلس "الخبراء" الأسبق حجة الإسلام "علي أكبر هاشمي رفسنجاني" الذي يتولى أيضاً رئاسة "مجلس تشخيص مصلحة النظام"، والذي يتعرض لحملات تضييق منذ مساندته للمعارضة التي أعلنت بطلان نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها الرئيس السابق "أحمدي نجاد" بفترة ولاية ثانية عام 2009.
وبدأت هذه الحملات بإزاحة "رفسنجاني" عن منصب "مجلس الخبراء" والأحكام التي صدرت على أبناءه "مهدى رفسنجاني" بالسجن لمدة 15 عاماً بتهم تتعلق بالأمن القومي والاحتيال والتزوير واختلاس الأموال، كذلك الحال بالنسبة لـ"فايزة رفسنجاني" التي حُكم عليها بالسجن لمدة 6 أشهر عام 2012 بتهمة "الدعاية ضد النظام"، وهو ما يؤكد وجود حالة من التوافق داخل أوساط النظام من المتشددين للتخلص من نفوذ "رفسنجاني" وتحجيم دوره في أي عملية سياسية قادمة، خاصةً أنه من الأشخاص الرئيسيين الذين قاموا بدور فاعل في مساندة "خامنئي" في الوصول لمنصب المرشد وتوليه منصب رئاسة الجمهورية كمقابل لذلك.
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 2009 طالب "تجمع نواب مجلس الشورى الإسلامي السابقين" في رسالة لرئيس مجلس "خبراء القيادة" وقتذاك "رفسنجاني" ببحث صلاحيات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية "على خامنئي" وفقا للمادة (111) من الدستور في سابقة طرحت لأول في إيران، مستندين في ذلك لنتائج القرارات التي اتخذت لقمع المتظاهرين المحتجين على نتائج انتخابات الرئاسة عام 2009 بحجة عجز المرشد عن القيام بواجباته ومسؤولياته عن هذه الإجراءات وفقاً لما هو وارد في المادتين (5) و(109) من الدستور كصفات واجبة لقيادة أمة المسلمين، وتمتعه بالرؤية الصائبة للأمور السياسية والاجتماعية، والتدبير والشجاعة والقوة.
وبالتالي، فإن مسألة انتخاب "يزدي" الذي ينتمي للتيار المحافظ المتشدد كانت مُلحة بشكل كبير، وتحمل في طياتها دلالات عدة، من أبرزها أن مسألة السيناريوهات المحتملة قد تم تجاوزها بالفعل، وأصبح الأمر محسوماً بشكل شبه مؤكد بالتنسيق مع "خامنئي" والمؤسسات الحاكمة الأخرى التي يأتي على رأسها "الحرس الثوري" وأن الشكل الحالي هو الذى سيستمر، أي اختيار شخصية تتولى منصب الإرشاد خلفاً للمرشد الحالي "على خامنئي"، حيث إن هذا الوضع سيحقق أمرين حيويين بالنسبة للنظام، أولهما يتمثل في الحيلولة دون وصول شخصية ذات توجهات إصلاحية تسعى لإدخال تعديلات أو تتخذ قرارات تؤدي بالتبعية لتقويض صلاحيات ومكتسبات القوى الفاعلة داخل المنظومة الحاكمة، والتي تكتسب وضعيتها من خلال ارتباطها بمرجعية النظام الثوري وحمايتها له.
أما الأمر الثاني، والذي لا يقل أهمية، فيكمن في القضاء على فرص ظهور أصوات معارضة داخل "قم" قد ترى في نفسها أحقية لتولي هذا المنصب أو التدخل في اختيار الشخص الذي سيتولى القيادة. فإذا حدث أمر من هذين، فإن ذلك سيفتح المجال لحدوث صراع داخلي سيؤدي حتماً لتقويض الأساس المرجعي والفقهي الذي يستند إليه النظام الحاكم في طهران بشكل قد يؤدي لانهياره بشكل كامل.
موقف مؤسسة الحرس الثوري
بالنظر لما سبق، فإن مؤسسة "حرس الثورة الإسلامية" كما هو واضح من الاسم الرسمي لها مرتبطة بالمرجعية الثورية الإسلامية للنظام الحاكم هناك، وتسعى طوال الوقت لوجود شخصية تنتمي للتيار المتشدد على رأس السلطة تضمن استمرارية الوضع على ما هو عليه.
ويعزز هذه الفرضية أن "الحرس الثوري" يتمتع بنفوذ واسع داخل وخارج البلاد، ويسعى للحفاظ على هذه المكتسبات التي حصل عليها على المدى الزمني، وجعلته عنصراً رئيسياً في عملية صنع القرار في طهران، واستفادته من الضغوط الخارجية الواقعة على الدولة الإيرانية خاصةً العقوبات المفروضة من قِبل واشنطن، حيث أصبحت له اليد العليا في المعاملات الخارجية الخاصة بقطاعي النفط والغاز تحديداً، وخلق آليات متجددة للالتفاف على هذه العقوبات، وأيضاً توفير الأوراق التفاوضية لإيران بالانتشار في عدد من دول الشرق الأوسط، بالإضافة لإشرافه المباشر على عناصر البرنامج النووي وإسهام ذلك في دفع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة للاعتراف بدور "طهران" كطرف فاعل في أي تسويات مرتبطة بعدد من الملفات والقضايا الحيوية بالمنطقة، وصولاً إلى الاستفادة من ذلك في المفاوضات النووية الجارية، رغم أن "الحرس الثوري" في حقيقة الأمر لا يرغب في الوصول لتسوية حقيقية ونهائية لهذا الملف ارتباطاً بكون أي تسوية دائمة ستؤدي بالتبعية لتراجع دوره في مقابل باقي المؤسسات الاقتصادية في إيران، والتي هي صاحبة الاختصاصات الأصيلة.
وعليه، فإن مسألة الخلافة واختيار شخصية متشددة تتوافق مع مصلحة أغلب قيادات مؤسسة الحرس الثوري، يجعل الحرس ساعياً لإجهاض أي محاولات قد تؤدي لأي سيناريوهات بعيدة عن السيناريو التقليدي، وتقويض فرص وصول شخصية معتدلة لهذا المنصب.
سيناريو "هاشمي شاهرودي" كخيار مطروح
أُعيد طرح اسم مرجع التقليد آية الله "محمود هاشمي شاهرودي" بشكل واضح بعد توليه منصب الرئيس المؤقت لـ"مجلس الخبراء" في أعقاب وفاة "مهدوي كني"، باعتباره النائب الأول لرئيس المجلس قبل إجراء الانتخابات الأخيرة، والتي تولى "يزدي" على أثرها هذا المنصب.
ويعد "شاهرودى" من أهم الشخصيات المقربة للمرشد الحالي "علي خامنئي" والاسم الأبرز لخلافته، وبعيداً عن كونه من مواليد "النجف" ودرس في مدارس حوزتها العلمية؛ فإن هذه الشخصية تحديداً لها أهمية أكبر من المتصور خلال المرحلة القادمة بالنسبة للصراع بين حوزتي "النجف" و"قم"، فقد عُرف "شاهرودي" أثناء وجوده بالعراق باسم "محمود هاشمي"، مُستخدماً اسمه العربي وكونه أحد كبار المراجع المنتمين في الأصل للحوزة النجفية، ووجود مقلدين له في كل من العراق وإيران سيؤدي حال توليه منصب الإرشاد للحد من الصراع الحوزوي المستمر، وإسكات الأصوات داخل "النجف" التي تطالب بالأحقية في قيادة الشيعة "الإمامية"، نظراً لانتمائه الأساسي لهذه الحوزة.
لكن السؤال الذى يطرح نفسه هو: ما مدى استجابة كبار المراجع الآخرين في إيران له؟ فهؤلاء تُسيطر عليهم مسألة تطبيق القواعد الأخرى للاختيار، وأبرزها أعداد الأتباع المُقلدين، بيد أن هذه المسألة قد تُحسم في الأساس من جانب "خامنئي" الذي لم يرغب حتى الآن في اختيار نائب له تحسباً من إمكانية إقصاءه بدعوى عجزه عن تولي مسؤوليات منصبه بالاتفاق بين الدوائر القوية المحيطة به، سواء من رجال الدين المتشددين أو الحرس الثوري.
وكان "خامنئي" قد سعى منذ فترة للدفع بابنه "مجتبي خامنئي" للمشهد توطئةً لخلافته في منصب الإرشاد، الأمر الذي أدى لتعرضه لانتقادات واسعة من جانب رجال الدين المعارضين في الأساس لـ"خامنئي" خاصةً في "قم". ورغم محاولاته المتعددة وقيامه بزيارات لمدينة "قم" لمقابلة المراجع المساندة له، فإن هذه الجهود قد باءت بالفشل نظراً لافتقاد "مجتبي" للمقومات والشروط الواجب توافرها في الشخص الذي يتولى هذا المنصب.
جدير بالذكر، أن "مجتبي خامنئي" يرتبط بعلاقات إيجابية مع مؤسسة الحرس الثوري، تستند في الواقع إلى ارتباطات اقتصادية، وهي أيضاً من الأمور التي أسهمت في الحيلولة دون استمرار تصدره للمشهد، وتواريه لفترة.
قضية الخلافة والعلاقات مع الولايات المتحدة
ظلت الولايات المتحدة منذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 وقفز الإسلاميين على الحكم هناك، والتحول نحو المنهاج الإسلامي الثوري العدو الأول الذي لطالما دأب النظام الإيراني على "شيطنته" وفقاً لمقولة الإمام "الخمينى". فلا يمكن أن تسير في إيران دون أن ترى ما يشير إلى ذلك بأن الولايات المتحدة هي "الشيطان الأكبر" أو "الموت لأمريكا".
وعليه فإن الأساس الذي قام عليه النظام الثوري في إيران يرتبط جملة وتفصيلا بالعداء للولايات المتحدة و"قوى الاستكبار"، واستمر النظام على نهجه هذا حتى مع بدء المفاوضات وعلى مدى استمرارها، واستفادة النظام من الإجراءات الأمريكية في تبرير مشكلاته الناتجة عن العقوبات المستمرة ضده في كسب تعاطف مؤيديه رغم وجود حقيقة ظاهرة مفادها تقديم النظام الإيراني لعدد من الخدمات لـ"واشنطن" أثناء غزو أفغانستان، كما أن انسحاب الولايات المتحدة من العراق عام 2007 أدى بالتبعية لتوافر الفرصة الكاملة لإيران في ملء الفراغ هناك وسيطرته بشكل شبه كامل على القرار العراقي.
وبذلك، فإن المستفيد الأول من المفاوضات الجارية هو النظام الإيراني فقط، فإذا نجحت المفاوضات وحدث توافق في صورة اتفاق، وتم التصويت عليه في مجلس الأمن الدولي، وبُناءً على ذلك يتم رفع العقوبات الدولية عن إيران وبالتبعية العقوبات الأمريكية، فإن النظام الإيراني سيبدو أنه نجح في سياسته، وأنه الأجدر بالاستمرار.
أما في حالة الفشل، فإن النظام سيقوم بتسويق ذلك أيضا داخلياً بعدم جدية الطرف الأمريكي والغرب في التوصل لاتفاق يحفظ لإيران حقوقها، وسيستثمر في استخدام نبرة إعلاء البعد الوطني الذي يلقى قبولاً داخل طهران، وسيحتاج في ذلك للنبرة المتشددة ذات الأساس الديني والمرجعي.
ونخلص هنا إلى أن الطرف الإيراني هو المستفيد حتى الآن من الأحداث الجارية والخطوات الأمريكية الرامية لاستمالته للمفاوضات وآخرها رفع كل من إيران و"حزب الله" اللبناني من قوائم الإرهاب الأخيرة باعتبارهما طرفين أصيلين في محاربة الإرهاب، وكذلك التغاضي عن تجديد العقوبات لصالح استمرارية المفاوضات، وهي مكاسب أدت لإعطاء النظام الإيراني فرصة لالتقاط الأنفاس، مستثمراً في ذلك الوجه الإصلاحي الذي يحكم حالياً، فضلاً عن التمدد في المنطقة بشكل يتيح له فرصاً متواصلة للمناورة خلال أي مباحثات مع كافة الأطراف المرتبطة بالملفات المطروحة.
ورغم ذلك، فإن النظام الإيراني يرى أن هناك تحولات في الموقف الأمريكي قد تؤدي إلى حدوث حالة من عدم الاطمئنان لالتزام الولايات المتحدة باستمرارية النهج التفاوضي كما جاء في "الاتفاق الإطاري"، وما قد يستتبعه من التغاضي عن الحركة الإيرانية الساعية لتكريس نفوذها في المنطقة، خاصة مع ما تعتبره "طهران" محاولات من جانب "واشنطن" لطمأنة حلفائها في الشرق الأوسط على حساب إيران، حيث أيدت الولايات المتحدة العمليات العسكرية ضد اليمن، كما لوحت على لسان وزير دفاعها "أشتون كارتر" بإمكانية استخدام القنابل الخارقة للموانع لضرب المنشآت النووية الموجودة أسفل الجبال. إلا أن واقع الأمر يشير إلى أن ما تقوم به الولايات المتحدة ما هو إلا محاولة موازنة للموقف لحين التوصل لاتفاق نهائي مع إيران، وحتى ذلك الحين فإنه ينبغي عليها اتخاذ إجراءات تطمينية تحول دون حدوث انتكاسات في العلاقات الأمريكية العربية، لاسيما مع دول الخليج العربي.