أظهرت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي أُجريت يوم الأحد (23 أبريل 2017) انتقال مرشح حزب (إلى الأمام) إيمانويل ماكرون، ومرشحة حزب (الجبهة الوطنية) مارين لوبان، إلى الجولة الثانية بعد حصولهما على نسبة 24,01% و21,3% على التوالي من جملة المصوتين في الجولة الأولى. وتثير نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات تساؤلا يشغل الكثيرين داخل فرنسا وخارجها يدور حول ما إذا كانت باريس ستضع حدًّا لصعود اليمين المتطرف، أم ستكون حلقة ضمن سلسة انتصارات القوميين والمحافظين؟.
وتكشف المتابعة لمجريات عملية التصويت في الجولة الأولى من تلك الانتخابات عن سبعة ملامح رئيسية سيكون لها جل الأثر على الجولة الثانية من الانتخابات بشكل خاص وعلى مستقبل فرنسا بشكل عام، وتتمثل تلك الملامح في:
أولا- انخفاض كبير في شعبية اليمين واليسار التقليدي: كسرت الانتخابات الرئاسية الحالية قاعدة تداول السلطة في فرنسا بين اليمين المعتدل واليسار، والتي استمرت قرابة 36 عامًا. فمنذ انتخاب "فاليري جيسكار ديستان" عام 1974 كمرشح وسطي لا ينتمي بوضوح لليمين أو لليسار، تناوب على الرئاسة الفرنسية رؤساء من اليمين المعتدل التقليدي، مثل: "جاك شيراك" و"نيكولا ساركوزي"، ورؤساء من اليسار مثل: "فرانسوا ميتران" والرئيس الحالي " فرانسوا هولاند".
ويمثل صعود مرشحة اليمين المتطرف ومرشح حزب وسطي إلى الجولة الثانية حالة استثنائية؛ حيث لم ينجح أيٌّ من مرشحي اليمين التقليدي "الجمهوريين" أو اليسار التقليدي "الحزب الاشتراكي" في الحصول على النسبة الأكبر من أصوات الناخبين في الجولة الأولى. ويكشف هذا عن مرور فرنسا بظروف استثنائية صادمة للناخبين، سواء على المستوى الداخلي "الإرهاب"، أو الإقليمي "خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي".
ثانيًا- تغير خريطة التحالفات الحزبية التقليدية: حيث لم تُشارك أحزاب فرنسية تقليدية بصورة مباشرة، مفضلة التحالف مع مرشحين آخرين. فعلى سبيل المثال، أعلن حزب (الخضر) عدم خوضه الانتخابات، وتوجيه أصوات ناخبيه لاختيار مرشح الحزب الاشتراكي "بونوا هامون". وبعد إعلان نتائج الجولة الأولى، أعلن مرشح حزب الجمهوريين (اليمين المعتدل) "فرانسوا فيون" مساندته ترشيح "إيمانويل ماكرون" على حساب "مارين لوبان". وبذلك يضرب بالعديد من التوقعات عرض الحائط التي أيدت فكرة ذهاب الكتلة الجمهورية لرصيد "لوبان"، باعتبارها معبرة عن بعض الأفكار المشتركة لـ"فيون".
ويُعزز خروج أبرز مرشحي اليسار من الجولة الأولى، "جان لوك ميلينشون" و"بونوا هامون"، من فرص فوز ماكرون في الجولة الثانية من الانتخابات؛ حيث يستبعد كثير من المحللين أن يقوم ناخب يساري بإعطاء صوته لليمين المتطرف. وفي حالة عدم تأييد الناخب اليساري لـ"ماكرون" فإنه سيقوم -عادةً- إما بإبطال صوته، أو الامتناع عن التصويت بالأساس، مما يُنبئ بانخفاض نسبة المشاركة الانتخابية في الجولة الثانية عن الأولى. وعلى غير المتوقع، لم يُوصِ مرشح حزب (فرنسا الأبية) اليساري "ميلينشون" مؤيديه بأن يصوتوا لمصلحة ماكرون، مما جعله ينال انتقادات لاذعة من الحزب الاشتراكي ذي التوجهات اليسارية أيضًا.
ثالثًا- استمرار تراجع نسبة مشاركة الفرنسيين في الانتخابات: على الرغم من أن نسبة مشاركة الفرنسيين كانت عالية كالعادة في الانتخابات الرئاسية الحالية، حيث وصلت إلى ما يقرب من 77% من إجمالي المسجلين على القوائم الانتخابية؛ إلا أنها تسجل تراجعًا تدريجيًّا في نسبة مشاركة الفرنسيين بالانتخابات الرئاسية مقارنةً بانتخابات عام 2012 ومن قبلها انتخابات عام 2007. وكانت نسبة المشاركة النهائية المسجلة في انتخابات عام 2007 هي الأعلى على الإطلاق، حيث وصلت إلى 83,77%، بينما سجلت انتخابات عام 2012 نسبة مقدارها 79,48%.
وترجع نسبة الامتناع عن التصويت المتصاعدة إلى العديد من العوامل التي من أهمها زيادة عدم الثقة لدى المواطنين الفرنسيين في اليمين واليسار التقليديين اللذين كانا يحشدان أعدادًا مهمة من المؤيدين. كما أن تداول السلطة المستمر بينهما (اليمين واليسار التقليديين) دون إيجاد حلول جذرية للعديد من المشكلات المتفاقمة من وجهة نظر البعض، دفع إلى مزيدٍ من فقدان الثقة في خطابهما السياسي.
رابعًا- مصداقية كبيرة لمنهاجية استطلاعات الرأي في فرنسا: أشارت معظم استطلاعات الرأي الحديثة في فرنسا إلى وجود خمسة مرشحين سيحصلون على أصوات الفرنسيين في الجولة الأولي من الانتخابات، وهم بترتيب التوقعات: ماكرون (23,5%)، لوبان (23,5%)، فيون (19%)، ميلينشون (17%)، وأخيرًا هامون (9%).
وقد جاءت النتائج النهائية بالفعل تعبيرًا صادقًا عن دقة منهاجية تلك الاستطلاعات بفروقات بسيطة جدًّا، حيث حصل ماكرون على 24,01%، ولوبان على 21,3%، وفيون على 20,01%، وميلينشون على 19,58%، من إجمالي الأصوات في الجولة الأولى.
ولذا، يُتوقع أن تكون استطلاعات الرأي معبرة بدقة عن نتائج الجولة الثانية التي ترشح فوز ماكرون بنسبة كبيرة تتجاوز60%. ولا يرجع ذلك فقط إلى نجاحه المتوقع في استقطاب أصوات اليمينيين المعتدلين واليساريين، ولكن أيضًا إلى نجاحه المتوقع في جذب أصوات المرشحين الحائزين نسبًا ضئيلة في الجولة الأولى.
فوفقًا لنظرية "تأثير عربة السيرك Bandwagon effect"، يقوم الناخب بإعطاء صوته للمرشح الفائز في استطلاعات الرأي لأن احتمالية تغييره لتلك النتيجة تكون ضئيلة جدًّا، وكلما صدقت التوقعات كلما زاد ميل الناخب للتصويت للمرشح الفائز.
خامسًا- الدور المتصاعد للاستقطاب الطبقي والثقافي على حساب الأيديولوجي: كما ذكرنا، للفرنسيين تقاليد قديمة مع التصويت الأيديولوجي، إما للتيار اليميني أو اليساري. ومما هو متعارف عليه فإن تقسيم الأحزاب بحسب الأيديولوجيات لا يمنع من أن يجمع بين مؤيديها مستويات اجتماعية وثقافية متباينة، وإن كان يغلب طابع معين على كل حزب بحكم الممارسة لا بحكم مسبق منصوص عليه في لوائح الحزب.
وبدراسة الكتلة الانتخابية عن طريق عينات منتقاة، توصلت مراكز الدراسات الفرنسية إلى النتائج التالية: ميل الكوادر وأصحاب المهن الإدارية لانتخاب "ماكرون"، في حين فضلت الطبقات العمالية وأصحاب المهن المتوسطة "لوبان". وتوافقًا مع هذا الاتجاه، صوتت أيضًا الكتلة الأكبر من أصحاب الدخول المرتفعة (بمتوسط دخل 3000 يورو شهريًّا أو أكثر) لصالح "ماكرون"، في حين صوتت الكتلة الأكبر من أصحاب الدخول المنخفضة (بمتوسط دخول 1250 يورو شهريًّا أو أقل) لصالح "لوبان". وبالنسبة للجانب الثقافي فقد جاء متوافقًا مع العوامل الطبقية، حيث صوتت الكتلة الأكبر من الحاصلين على المؤهلات العليا (المؤهلات الجامعية فيما أعلى) لصالح "ماكرون"، بينما صوتت الكتلة الأكبر من الحاصلين على المؤهلات الأدنى لصالح "لوبان".
إن تغير الأيديولوجية بصفتها القاعدة القيمية الأساسية التي تدفع -عادةً- الناخب الفرنسي لاختيار مرشحه يُمثِّل شعورًا عميقًا لدى الناخب عامة بفقدان الثقة في أحزاب الحكومة التقليدية، مما يُنبئ بحراك اجتماعي مستقبلي قائم على الطبقية والفوارق الثقافية. ومن شأن هذا الحراك في مجتمع تعددي وثري -ثقافيًّا- تعميق الدراسات السوسيولوجية، وتكثيف المراجعات الفكرية لدى الأحزاب التقليدية، وبالتالي يؤشر إلى صعود وجوه جديدة وتغيرات جذرية في هياكل الأحزاب الداخلية.
سادسًا- الأهمية المتصاعدة للجغرافيا السياسية في فرنسا: يكفي النظر إلى خريطة الدولة الفرنسية بعد نتائج الجولة الأولى ليستنتج المتابع تقسيمًا جغرافيًّا مثيرًا لا يمكن أن يكون عشوائيًّا. فبالنسبة لأقاليم غرب فرنسا الشمالية والجنوبية فقد فاز فيها كلها "إيمانويل ماكرون"، بينما تركز فوز "مارين لوبان" في أقاليم شمال شرق البلاد (باستثناء إيل دو فرانس Ile de France حيث توجد العاصمة باريس)، وبعض أقاليم الجنوب الشرقي. وقد حازت "لوبان" نسبًا مهمة جدًّا في الأقاليم ذات الطابع الريفي أو شبه الحضاري مثل فوكلوز بنسب تصل إلى 30%. بينما حاز "ماكرون" أعلى نسب له في أكبر وأشهر المدن الفرنسية؛ حيث فاز في باريس العاصمة بنسبة 34,83%، وفي بوردو بنسبة 31,26%، وأخيرًا في نانت بنسبة 30,83%.
هذه الثنائيات "الريفية-الحضارية" و"الشرقية-الغربية" من شأنها توجيه أنظار المرشحين الفائزين في الجولة الأولى نحو الجغرافيا السياسية باعتبارها عاملا حاسمًا في نتيجة انتخابات الجولة الثانية، والعمل على تعميق فهم طبيعة الناخب في غرب البلاد وشرقها، وفي مدنها وأريافها.
سابعًا- اختلاف حول مستقبل العلاقات الفرنسية-الأمريكية: لا يوجد فقط اختلاف جوهري بين "ماكرون" و"لوبان" حول قضايا الاتحاد الأوروبي والمهاجرين، لكن لأول مرة منذ عقود يكون هناك اختلاف جذري بين مرشحي الجولة الثانية حول مستقبل العلاقات الفرنسية-الأمريكية. ففي الوقت الذى يرى فيه "ماكرون" ضرورة اتخاذ موقف حاسم حيال حق النقض (الفيتو) الروسي المتكرر في مجلس الأمن فيما يتعلق بالأزمة السورية؛ فإن "لوبان" أعلنت صراحة ضرورة التقارب مع الموقف الروسي، ورفضها أي عقوبات أمريكية-أوروبية تُفرض على موسكو في أعقاب أزمة أوكرانيا.
ليس هذا فحسب، بل أعلنت عن تطلعها إلى إلغاء الاتفاقيات التجارية مع الولايات المتحدة المعروفة باسم اتفاقية التبادل الحر عبر الأطلسي "تافتا TAFTA"، وهو نفس موقف أبرز المرشحين الآخرين في الجولة الأولى من الانتخابات، في حين يقف ماكرون وحيدًا مؤيدًا لاستمرار تلك الاتفاقيات. وهذا ما يجعل الناخبين الفرنسيين متخوفين من دعم خفي أمريكي لترشيح ماكرون نتيجة تقاربه من الرؤية الأمريكية بشكل علني.
على أي حال، ليس من المتوقع أن تصطدم فرنسا بالولايات المتحدة كاصطدام روسيا بتلك الأخيرة في مجلس الأمن، ولكن ستكون قدرة روسيا على المناورة في ملف الأزمة السورية أكبر إذا فازت لوبان في الجولة الثانية.
خلاصة القول، من شأن تلك الملامح المميزة للجولة الأولى لانتخابات الرئاسة الفرنسية لعام 2017 أن تلعب دورًا محوريًّا في تصويت الفرنسيين في الجولة الثانية من الانتخابات يوم الأحد (7 مايو). ولكن في حقيقة الأمر، تبقى مسألة الانتخابات البرلمانية على درجة عالية من الأهمية، حيث تشغل بال المرشحين بصورة كبيرة. فنظرًا لضيق الوقت (حيث تجرى الانتخابات البرلمانية أيام الحادي عشر والثامن عشر من شهر يونيو المقبل) يخشى "ماكرون" و"لوبان" في حال فوز أيٍّ منهما في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية عدم الحصول على الأغلبية البرلمانية مما يمكنهما من تشكيل حكومة تتوافق ورؤاهم السياسية.
حزب ماكرون (إلى الأمام) هو حزب حديث العهد يضم بين صفوفه نسبة كبيرة من الوجوه غير المعروفة، مما يعزز من فرص تشكيل حكومة ائتلافية. على النقيض، فإن حزب الجبهة الوطنية بزعامة لوبان يمكنه الارتكاز على العديد من الوجوه المحلية المعروفة للحصول على نسبة لا بأس بها من مقاعد البرلمان. المشكلة الأساسية التي ستواجه الحزب اليميني المتطرف، إذا افترضنا عدم حصوله على الأغلبية المطلقة وهو الأقرب إلى الواقع، هو قدرته على تكوين تحالفات مع الكتل البرلمانية الأخرى في ظل الحشد السياسي ضد اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية.
لهذا، يمكننا القول إن استراتيجيات كلٍّ من "ماكرون" و"لوبان" في تكوين التحالفات وحشد الأنصار في الجولة الثانية ما هي إلا جزء صغير مما يدور في عقل كلا المرشحين في لعبة سياسية غاية في التعقيد.