أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

القصور "الأنثروبولوجي":

لماذا عجزت الولايات المتحدة عن فهم الآخرين؟

26 ديسمبر، 2014


إعداد: باسم راشد

تواجه وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" العديد من التحديات في ضوء سعيها للتعامل بشكل أكثر جدية مع العلوم الاجتماعية لمواجهة التهديدات النابعة من "غير الغربيين Non-Westerners" خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر؛ ومن أبرز تلك التحديات عجز الغربيين عن محاكاة العقول غير الغربية، فضلاً عن عدم قدرتهم على تطوير منهجية يمكنها، بدقة، مواكبة التطورات التي تحدث في العالم غير الغربي، الأمر الذي يدفع إلى ضرورة التفكير في بدائل أكثر مرونة للتعامل مع "غير الغرب".

في هذا الصدد، أعدت البروفيسور "آنا سيمونز Anna Simons"، أستاذة تحليل الدفاع في كلية الدراسات العليا البحرية الأمريكية، دراسة بعنوان: "التهديدات غير الغربية والعلوم الاجتماعية"، سلطت خلالها الضوء على أبرز المشكلات التي تواجه الولايات المتحدة في التعامل مع التهديدات غير الغربية من منظور العلوم الاجتماعية، سواء المشكلات المفاهيمية أو المرتبطة بمُدخلات العلوم الاجتماعية، والبدائل المقترحة التي يمكن الاعتماد عليها لمواجهة تلك التهديدات.

التقارب وقراءة التاريخ: وسيلتان لفهم العالم غير الغربي

تستبعد Simons فكرة إمكانية أن تُقدم العلوم الاجتماعية إطاراً عاماً ودقيقاً يستطيع تفسير التهديدات الاجتماعية المعقدة التي تواجه الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين، بما يتضمنه من إشكاليات التطرف بأنواعه، وعدم الاستقرار والتمرد، وذلك لأن محاولات بناء مثل هذا الإطار التحليلي الشامل تتجاهل تاريخ الأنثروبولوجي "علم الإنسان".

وتشير الدراسة إلى أن ظهور تلك الأطروحة في العلوم الاجتماعية يستتبع بدوره ظهور عدة مدارس؛ الأولى تؤيد الأطروحة وتدعمها من خلال الأكاديميين وبعض مراكز الفكر، أما المدرسة الثانية فتظهر لتنتقد الأطروحة وتسعى لدحضها عن طريق المختصين في العديد من المجالات الفرعية، والذين لا يمكن أن يصمتوا حيال ظهور مثل ذلك المنظور الشامل الذي يمكن أن يقضي على اقتراباتهم المنهجية الخاصة، أو كما قال هيجل وماركس: "إن وجود الفرضية يضمن وجود نقيضها".

وفي خضم هذا التنافس المحموم بين المدرستين، تظهر المدرسة الثالثة، والتي دوماً تأخذ اتجاهاً وسيطاً توافقياً بين الطرفين، وهو ما ترفضه الكاتبة وتعتبره أمراً خاطئاً، بل ومُضللاً في بعض الأحيان. لذا فإن فكرة تطوير "إطار عام" يغطي الغرب وغير الغرب والخلافات داخل كل منهما وبينهما، لا يمكن أن يكون منظوراً عالمياً في كل الأحوال. بل الأسوأ من ذلك أن هذا الجدل بين المدارس الفكرية يؤدي إلى تشتيت الجهود حول ما يجب تحقيقه، وهو "الاستثمار في الأفراد" الذين يفهمون جيداً العالم غير الغربي.

وعلى الرغم من أن التفكير الجماعي السائد بين الأنثروبولوجيين وغيرهم، ينحاز لفكرة أن الأفراد متشابهون في كل العالم، بيد أن ثمة بعض الأدلة التي تثبت عكس تلك الفرضية؛ إذ إن هناك اختلافات عميقة بين الأفراد من مختلف الثقافات في الأولويات والقيم والدوافع البشرية، ولا يعني هذا الاختلاف بالطبع عدم فهم ثقافة الآخر أو صعوبة التواصل معه، بل إنه يتطلب أُفقاً أوسع لفهمه بدلاً من النظرة المحدودة المرتبطة بثقافة مجتمع واحد. بل إن إدراك طبيعة الاختلاف نفسه في ثقافة ما، يساعد على فهمها أكثر، فمثلاً المجتمعات القبلية منعت، عن عمدٍ ووعيٍ كاملين، علماء الأنثروبولوجيا من الوصول إلى أقدس معتقداتهم وممارساتهم الدينية. والتاريخ الأمريكي الهندي حافل بمثل تلك الأمور، وهو ما يجعل من المستحيل تفسير ثقافة هذا المجتمع أو ذاك بشكل دقيق، وبالتالي استحالة تغييرها.

وتشير Simons إلى أن الجيش والبحرية والقوات الجوية الأمريكية يعتمدون في محاولة فهم وتغيير الثقافة غير الغربية إحدى طريقتين؛ الأولى تتمثل في فكرة التقارب العميق والتعايش مع شعوب ذلك المجتمع وقضاء مزيد من الوقت والمجهود لفهمهم مهما ارتفعت تكلفة ذلك الأمر، حيث لا يمكن أن تصبح متكلماً للغةٍ غير لغتك إلا بالتواصل مع أصحاب اللغة أنفسهم. أما الطريقة الثانية، فهي تعميق قراءة تاريخ تلك الشعوب بما يساعد على فهم سياقهم العام وقواعدهم المعرفية التي يتعاملون داخلها، ومن ثم إمكانية تغيير منظوراتهم.

مظاهر قصور "الأنثروبولوجيا" عن مواجهة التهديدات

إن التساؤل المهم الذي يجب طرحه هو: إلى أي مدى ينبغي أن يتضمن القرن الواحد والعشرون من تلك النماذج والمنهجيات والمقاييس التي تطرحها العلوم الاجتماعية من حيث طرق ووسائل التعامل مع الآخرين؟

رداً على هذا التساؤل، تشير الكاتبة إلى أن النماذج الحالية التي ابتكرها علماء الاجتماع تمتاز بقدرتها على ملاحقة التغيير الذي يحدث في الواقع بمرور الوقت، لكنها مازالت عاجزة عن إدراك قوة الشخصيات، وطبيعة التفاعلات فيما بينهم. حيث إن علماء الاجتماع ماهرون في رسم خرائط العلاقات البشرية أكثر من قدرتهم على فهم ديناميكية العلاقات فيما بينهم؛ إذ يمكنهم الإجابة عن تساؤل: من يقوم بماذا وأين؟ لكنهم يعجزون عن إجابة سؤال: لماذا؟، حتى إنهم إذا تمكنوا من فهم ذلك الأخير، فإن إدراكهم لإجابته تكون متأخرة، فضلاً عن إنها ستكون بالطبع غير دقيقة.

ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل إن ثمة مشكلات أخرى تواجه إمكانية وضع نماذج للعالم غير الغربي، لعلَّ أهمها أن العالم غير الغربي في حد ذاته "غير شفاف"، فلا يمكنك الحصول على المعلومات التي تريدها لبناء قاعدتك المعرفية بشكل سليم. وتشير الكاتبة في هذا الصدد إلى أنه على الرغم من كم المعلومات التي تم تجميعها، فإنها لم تُمكن الأمريكيين من معرفة ما يدور في عقول صدام حسين أو حامد كرزاي، أو بشار الأسد، وكذلك الجماعات الجهادية التي لم يسمع أحد عنها من قبل.

لقد حاول الجيل الحديث من علماء "الأنثروبولوجيا" تصور بناء اجتماعي يعتمد على فكرة القرابة kinship،  لتفسير سلوكيات الأفراد، إلا أن هذا المفهوم مازال محل جدل حتى الآن، فضلاً عن أنه يؤدي إلى نتائج مُضللة، لأنه لا يستطيع الكشف عن "محتوى وكيمياء" العلاقات بين البشر؛ أي من يحبون؟ من يكرهون؟ وكم هي المشاعر التي يمكنهم إظهارها؟، لذا فإن علم الجينيولوجي "علم الأنساب"، على الرغم من أهميته، فإنه يظل عاجزاً عن تفسير سلوك الأشخاص، وبالتالي صعوبة التنبؤ بها.

ففي العديد من المجتمعات غير الغربية، نجد أن غالبية الالتزامات الأخلاقية غير منطوقة، أي تكمن في الوعي والضمير الجمعي للمواطنين، فكيف يمكننا، نحن الغرباء، معرفة وتقييم ـ بشكل دقيق ـ ما يدفع الناس لاتخاذ هذا السلوك أو ذاك؟ بالإضافة إلى أن بعض تلك الالتزامات غير ثابتة وتتغير تبعاً للموقف؛ كذلك المثل الذي يتردد في تلك المجتمعات: "أنا ضد إخوتي.. أنا وإخوتي ضد أبناء عمومتي.. نحن وأبناء عمومتنا ضد العالم"، بمعنى أن السياق دوماً يتغير.

نحو تعميق "الاستثمار في الأفراد"

تؤكد Simons ضرورة توقف وزارة الدفاع الأمريكية عن فكرة بناء إطار تحليلي شامل، وبدلاً من ذلك، ترى أنه يجب توجيه المبالغ الضخمة التي تنفقها على "مجمع البنتاجون الصناعي للعلوم الاجتماعية"، وتستثمرها في الأشخاص المقربين من المجتمعات غير الغربية، معتبرة أن تلك هي أفضل الطرق لجعل أفراد الجيش الأمريكي يفهمون العالم غير الغربي بتعقيداته وتشابكاته المختلفة.

كما أن هؤلاء الذين سيتم اختيارهم للاستثمار فيهم، يجب أن يكونوا هم من يحددون الأدوات التي يجب استخدامها، وأن ينزوي التكنوقراط وصانعو القرار الذين لم يقضوا أي وقت في المجتمعات غير الغربية، وأن يبتعدوا عن وضع الاستراتيجيات التي تخص غير الغرب. وبالتالي يجب أن يبدأ قطاع الخدمات في البحث عن هؤلاء الأشخاص المؤهلين الموهوبين، والعمل على تنميتهم والاستثمار في قدراتهم البشرية وتعميق علاقاتهم مع العالم غير الغربي.

خلاصة القول، تؤكد الكاتبة أنه على الرغم من أهمية وحيوية العلوم الاجتماعية في فهم وتفسير التهديدات التي تواجه العالم الغربي، فإنها أبداً لم ولن تكون كافية لمواجهة تلك التهديدات، معتبرةً أن الاعتماد عليها فقط سيؤدي إلى نتائج ربما تكون كارثية على المجتمع الأمريكي. لذا فإن أدوات العلوم الاجتماعية هي جزء من إطار عام يجب أن يحكم الاستراتيجية الأمريكية، لكن لا يمكنها تفسير كل شيء، بل إن فكرة بناء منظور شامل لفهم التطورات كافة هي فكرة غير واقعية. وتنصح الكاتبة بأن يكون "الاستثمار في العنصر البشري" المُقرَّب من تلك المجتمعات هو الأولوية الأولى في التفكير الأمريكي، وكذلك في الإنفاق المالي.

*عرض موجز لدراسة تحت عنوان: "التهديدات غير الغربية والعلوم الاجتماعية"، المنشورة في أغسطس 2014 عن معهد أبحاث السياسة الخارجية، وهو أحد مراكز الفكر الأمريكية.

المصدر:

Anna Simons, Non-Western Threats and the Social Sciences (USA, Foreign Policy Research Institute "FPRI", August 2014)