شهدت وسائل الإعلام والاتصال طفرة هائلة منذ منتصف القرن الماضي، انعكست على البث التلفزيوني من خلال انتشار البث الفضائي، الذي سرعان ما انتقل إلى سماوات دول المنطقة، التي تسابقت على الاستحواذ على مساحات من البث الفضائي، فظهرت العديد من القنوات الفضائية الخاصة المتخصصة، الدرامية والترفيهية والرياضية والإخبارية، والتحقت بها متأخرة بشكل نسبي القنوات الدينية، التي شهدت بدورها تطوراً كمياً، مقارنةً بنشأتها المحدودة من حيث عدد القنوات وإمكانياتها المادية، حتى باتت القنوات الدينية أحد مكونات شبكات القنوات الفضائية المتخصصة، بعد أن اقتصر المحتوى الديني في وسائل الإعلام العربية لعقود طويلة على برامج متخصصة تذاع في أوقات محددة على شاشات التلفزيونات العامة.
وفي الوقت الذي يغلب فيه طابع الإعلام الخاص على الإعلام الديني في دول المنطقة، حيث تتزايد أعداد القنوات الدينية الخاصة، مقارنةً بالعدد الضئيل للقنوات الدينية التابعة للأجهزة الإعلامية الرسمية في دول المنطقة، وبالتالي تغيب الرقابة المباشرة على ما يقدم من محتوى ديني في هذه القنوات – تبرز العديد من السلبيات التي تعتري أداء هذه القنوات، الأمر الذي أسهم في حياد أغلبها عن الدور الأساسي المفترض لها في محاربة العنف ومقاومة التطرف ونبذ الطائفية، لتصبح في بعض الحالات أهم أدوات تأجيج هذه الأزمات في بعض المجتمعات العربية، فضلاً عن نجاح محاولات تسييس العديد من هذه القنوات، بل والعمل على إطلاق قنوات دينية تعبر عن تيارات إسلامية بعينها، وتعمل على نشر أفكارها.
خريطة الانتشار
أبدت شبكات القنوات الفضائية المتخصصة في المنطقة العربية اهتماماً واضحاً بالإعلام الديني، وربما جاء هذا الاهتمام لاحقاً لنشطاها الترفيهي، لكنه سرعان ما بات أحد مكوناتها الأساسية، حيث شهد عام 1998 إطلاق أول قناة دينية متخصصة في العالم العربي من قِبل شبكة "راديو وتلفزيون العرب ART" وهي قناة "أقرأ" التي حملت شعار "متعة الإعلام الهادف".
فيما أطلقت ثاني قناة فضائية إسلامية في المنطقة العربية خلال عام 2000 وهي قناة "المنار" المملوكة لحزب الله اللبناني، والمروجة لأفكاره، وتوالى إطلاق القنوات الدينية بعد ذلك بوتيرة أسرع حيث أُنشئت قناتا "المجد" و"الصفوة" خلال عام 2003.
وينقسم مشهد الإعلام الديني في المنطقة، من حيث نوعية البرامج المقدمة، إلى قنوات دينية عامة: مثل قنوات "اقرأ"، و"رسالة"، و"الصفوة"، و"المجد العامة"، و"المنار"، وهي قنوات تقدم محتوى دينياً في إطار برامج اجتماعية وأسرية. والنوع الآخر قنوات دينية متخصصة: مثل؛ قنوات "فجر، و"العفاسي"، وقناة "شدا"، وهي قنوات تقدم محتوى دينياً محدد إما بث القرآن الكريم، أو أناشيد إسلامية، أو علوم الحديث والقرآن.
أما من حيث التوجه، فتنقسم القنوات الدينية إلى قنوات محايدة مثل "اقرأ"، و"رسالة"، وقنوات سلفية مثل "المجد"، و"الناس"، و"الحكمة"، وقنوات صوفية مثل "الصوفية" و"صوفية"، وقنوات شيعية مثل "المنار"، و"الأنوار" و"أهل البيت".
وطبقاً للتقرير السنوي الصادر عن اتحاد إذاعات العالم العربي، فإن إحصاءات عام 2015 تشير إلى أن عدد القنوات الدينية بلغ خلال هذا العام 55 قناة؛ منها 50 قناة تتبع القطاع الخاص، بينما لا يملك القطاع العام سوى 5 قنوات فقط. وتأتي القنوات الدينية في المرتبة الثالثة بين القنوات العربية المتخصصة، بعد كل من؛ القنوات العامة بإجمالي عدد قنوات بلغ 292 قناة، والرياضية والإخبارية بعدد بلغ 61 قناة لكل منهما.
ولعل انقسام مشهد الإعلام الديني على النحو الموضح سابقاً، قد أسهم في ظهور العديد من السلبيات، لاسيما في ظل غياب رقابة فاعلة في العديد من الدول على الإعلام الخاص بشكل عام.
وفي هذا الإطار، عملت عدة دول عربية على اتخاذ إجراءات من شأنها ضبط النشاط الديني في وسائل الإعلام، لاسيما مع انتشار ظاهرة فوضى الفتاوى، وانتحال العديد من الأشخاص صفة "الداعية". فعلى سبيل المثال اتخذت الجزائر، في يناير 2017، عدة إجراءات لعمل الدعاة الدينيين في الإعلام، من بينها حظر أي داعية يحمل فكراً تكفيرياً أو متطرفاً ومنعه من الظهور في أي وسيلة إعلامية جزائرية. وكذلك تطهير المشهد الإعلامي الديني من الدخلاء عليه من خلال منع ظهور واستضافة الرقاة والمشعوذين.
سلبيات عديدة
لعل عملية قياس نجاح القنوات الدينية تخضع لاعتبارات مختلفة عن غيرها من القنوات المتخصصة، فلا يمكن اعتبار نسبة المشاهدة وشعبية هذه القنوات هو المقياس الأهم لنجاح هذه القنوات كما هي الحال في القنوات الأخرى، وإنما يستجد في هذا الإطار مقياس جديد يتمثل في انعكاس محتوى هذه القنوات على المجتمعات، ومدى تأثيرها بشكل إيجابي على النحو المفترض لها أن تلعبه.
وبالنظر إلى هذا الاعتبار الأخير، تظهر العديد من السلبيات التي حالت دون إحداث تأثير إيجابي على واقع مجتمعات دول المنطقة، في ظل استقطاب ديني وسياسي انعكست آثاره سلبياً على حالة الاستقرار في العديد من دول المنطقة، ومن أهم هذه السلبيات ما يلي:
1- الوقوع في فخ الاستقطاب السياسي: على الرغم من سمو الرسالة المفترضة للإعلام الديني والتي تعد في حد ذاتها حائط صد مفترض كذلك لمحاولات الاستقطاب والتأثير من قِبل جماعات أو أفراد، فإن الإعلام الديني في المنطقة لم يُستثن من التأثيرات التي خضعت لها باقي أنماط وسائل الإعلام الأخرى، فعملت بعض القنوات على خلط ما هو ديني بما هو سياسي، وظهرت دعوات لمناصرة أحزاب وتيارات سياسية بعينها. وكان المثال الأبرز في هذا الصدد، تلك الحملات التي أطلقتها قنوات دينية مصرية إبان فترة حكم الإخوان المسلمين، مثل "صّوت بنعم للإسلام" و"غزوة الصناديق"، و"قالت الصناديق للدين نعم".
وقد اعتمدت هذه القنوات في محاولاتها الاستقطابية للجمهور المتلقي فيما تقدمه من محتوى على ثلاثة عناصر أساسية: أولها: تجميل الذات، والتأكيد على تمسكها بتعاليم الدين من دون غيرها من القنوات. ثانيهاً: تشويه الآخر وتكفيره. ثالثها: استخدام شعارات دينية تحاول من خلالها التأثير على المتلقي وإقناعه بأنها الطريق الوحيد لله. فعلى سبيل المثال، اتخذت قناة "الناس" شعار "قناة تأخذك إلى الجنة"، واتخذت قناة "دليل" شعار "ليطمئن قلبي"، وقناة "الحكمة" شعار "إن تطيعوا تهتدوا"، وقناة "الكوثر" شعار "معين لا ينضب".
2- امتداد أزمة الخطاب الديني: يعاني الإعلام الديني في دول المنطقة أزمة الخطاب الديني الذي تعانيه المساجد، ليس فقط فيما يتصل بتطرف الخطاب أو تعصبه، وإنما أيضاً من نمطية طرحة وتكراره، وسيطرة الأهواء والاعتقادات عليه، غير أن أزمة الخطاب في الإعلام الديني تعد أكثر خطورة من مثيلتها في المساجد، في ظل انتشار هذه القنوات بالمقارنة مع أعداد مرتادي المساجد ومستمعي الخطب فيها. ويأتي ذلك على الرغم من الدعوات المتصلة لدور الإفتاء في العالم العربي لتجديد الخطاب الديني ليس بفحواه فقط، وإنما أيضاً بطريقة طرحه على المتلقي، وطريقة مواءمته لروح العصر، والتركيز على الخطاب المعتدل غير الخلافي، لتلافي أزمات المجتمع الاستقطابية الحالية.
3- تشتيت الرأي العام بتعدد الفتاوى: ما بين الآراء المتشددة والأخرى الأكثر اعتدالاً، والثالثة المتساهلة، أسهم المشهد الإعلامي الديني في تشتيت الرأي العام في كثير من القضايا، حيث تحولت الفتاوى من الرؤى المؤسسية إلى الرؤى الفردية، لاسيما مع ظهور ما يُسمى بـ "الدعاة الجدد" الذين أثاروا ضجة إعلامية بظهورهم الواضح وشعبيتهم المتزايدة بين أوساط الشباب، واختلاف طريقة عرضهم للمحتوى الديني وحتى في مظهرهم، ودعوتهم إلى الحياة والدين في الوقت نفسه، الأمر الذي عرَّضهم لهجوم شرس من الدعاة التقليديين، والمتشددين، الذين بدأ نجمهم في الخفوت إلى حد كبير.
غير أن التطورات السياسية التي شهدتها المنطقة عقب "الثورات العربية"، قد أسهمت في إعادة ترتيب الدعاة على الساحة، وجاء ذلك لصالح الأكثر تشدداً لاسيما مع صعود تيار الإسلام السياسي في العديد من دول المنطقة، الأمر الذي أدى إلى عودة الآراء المتشددة إلى الواجهة مرة أخرى، في مقابل الآراء الوسطية التي لازالت تبحث عن مساحة على شاشات القنوات الدينية المتخصصة.
4- التحول إلى إعلام طائفي: مثَّل التعدد الديني والمذهبي الذي تتسم به ديموغرافية المنطقة، في كثير من الأحيان نقطة ضعف، نظراً لغياب التجانس والانسجام بينهما، فضلاً عن محاولات بث روح الكراهية والطائفية التي سرعان ما انتقلت إلى المشهد الإعلامي الديني، فتحولت بعض القنوات الدينية للصراع بين السنة والشيعة، والمسلمين والمسيحيين، سواء كان ذلك من منطلق ديني متطرف يعتنقه بعض الدعاة، أو من منطلق خلاف سياسي، لاسيما في ظل تسييس العديد من القنوات الدينية، وإنشاء الحركات والأحزاب الدينية قنوات تلفزيونية للتعبير عن رؤاها.
وقد تصاعدت حدة طائفية بعض القنوات الدينية لاسيما فيما يتصل بتنامي النزعة الطائفية بين السُنة والشيعة خلال الفترة الماضية، بعد دخول إيران على خط تمويل قنوات شيعية تهدف إلى مهاجمة السُنة، وتبييض وجهة إيران وحلفائها في المنطقة، لتصبح بعض القنوات الفضائية العاملة في العراق أبرز مثال على ذلك، حيث أضحت مسرحاً لهذا الصراع بامتياز، نظراً لكثافة القنوات الممولة من إيران والتي تخرج في مواجهتها قنوات دينية سُنية بتمويل المؤسسات السُنية الكبرى في البلاد.
ختاماً، يمكن القول إن إعادة تقييم المشهد الإعلامي الديني في الدول العربية باتت ضرورة مُلحة في ظل ما يفرضه التطرف الديني من أزمات تعاني منها المنطقة ككل، غير أنه من قبيل الإنصاف الاعتراف بأن تطوير الإعلام الديني وإعادة ضبطه ليس بالعملية اليسيرة في ظل صعوبات لازالت تواجه دعوات تجديد الخطاب الديني، وتوغل التيارات الدينية المتشددة في مجتمعات عدة من دول المنطقة، حيث إنه عادة ما تواجه هذه التيارات الدعوة إلى الوسطية بمزيد من التشدد.