شهدت دول عدة في الشرق الأوسط حالات أو احتمالات خاصة بنقل مقرات العواصم التقليدية إلى مراكز بديلة لها في مناطق أخرى، على نحو ما تعكسه أوضاع العواصم في اليمن وجنوب السودان والسودان ومصر وإيران، لأسباب سياسية واعتبارات إدارية ومبررات اقتصادية وأوضاع بيئية، وعلى الرغم من أن هذا الوضع ليس جديدا سواء في الإقليم أو في مناطق جغرافية أخرى إلا أنه قد تزايد بعد الحراك الثوري العربي والأوضاع الذي ورثته، ويظل نجاح هذه التجارب مرهون بأوضاع كل حالة على حدة.
بدأت دول عديدة في الإقليم في اتخاذ خطوات إجرائية لنقل عواصمها التقليدية إلى مدن رئيسية أخرى، كما ظهرت نقاشات جادة داخل بعض الدول الأخرى حول ضرورة اتخاذ قرارات مماثلة في هذا السياق. لكن الملاحظ هنا، هو أن هذه الخطوات والنقاشات التي أثارتها اتسمت بنمطين رئيسيين:
الأول، أن النقل المحتمل لبعض العواصم سوف يكون بشكل دائم، على غرار نقل عاصمة جنوب السودان من مدينة جوبا إلى مدينة رامشيل في ولاية البحيرات، فيما سيكون البعض الآخر مؤقتا لحين تبلور ظروف معينة تتيح العودة من جديد إلى العاصمة التقليدية، وهو ما يبدو جليا في الحالة اليمنية، حيث تحولت مدينة عدن إلى عاصمة مؤقتة لحين إنهاء التمرد الذي تقوده حركة الحوثيين وقوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح والذي يسيطر علي العاصمة صنعاء في انتهاك واضح لقرار مجلس الأمن رقم 2216.
والثاني، أن تزايد الاتجاه نحو اتخاذ قرارات من هذا القبيل يعود إلى أسباب مختلفة، منها الأسباب الاقتصادية والتاريخية كما يبدو جليا في حالتى جنوب السودان ونيجيريا، والأسباب السياسية على غرار الحالة اليمنية، والاعتبارات الإدارية كما تعكسه الحالة المصرية، والعوامل البيئية على نحو ما تشير إليه الحالتان الإيرانية والسودانية.
ورغم أن هذا الاتجاه لم يرتبط بالثورات والاحتجاجات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الست الماضية، حيث سبق ذلك بعقود عديدة، إلا أنه تصاعد خلال تلك الفترة لاعتبارات مختلفة، ترتبط بما آلت إليه تلك التطورات وما فرضته من تغيرات بارزة في تلك الدول.
خطوات متواصلة:
اتخذت العديد من دول المنطقة قرارات لنقل عواصمها التقليدية إلى مدن أخرى. ورغم أن بعضها لم ينفذ حتى الآن، إلا أن ذلك ربما يمكن تفسيره في ضوء حاجة مثل تلك النوعية من القرارات إلى توافر ظروف قانونية ولوجيستية واجتماعية واقتصادية مواتية، حتى لا تفرض تلك القرارات تداعيات سلبية على التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، وحتى لا تكون العواصم الجديدة -حسب رؤية بعض الاتجاهات- مجرد امتداد للعواصم القديمة، وتقوم-وفقا لتلك الرؤية- بنقل نفس السلبيات التي تعاني منها الأخيرة.
وفي هذا السياق، اتخذت حكومة جنوب السودان، في 4 سبتمبر 2011، قرارا بنقل العاصمة من جوبا إلى مدينة رامشيل، والتي تقع بين ولايات جونقلى والاستوائية وأعالى النيل، وحددت فترة زمنية لتنفيذ ذلك تتراوح بين ثلاث وست سنوات.
وقد أثار هذا القرار جدلا واسعا داخل جنوب السودان، لا سيما أنه ارتبط في المقام الأول بالتوازنات السياسية والعرقية القائمة. إذ فسرت الحكومة هذا القرار بأنه جاء استجابة للشكاوى التي تقدمت بها قبيلة "الباريا" التي تقطن العاصمة جوبا، بسبب استمرار عمليات التعدي على الأراضي التي تمتلكها في العاصمة بشكل غير قانوني، حيث أعربت عن ترحيبها بنقل السلطات الاتحادية من المناطق التي تقطنها.
لكن اتجاهات عديدة عارضت تلك الخطوة وسعت، في يوليو 2014، إلى طرح عاصمة بديلة لرامشيل، على غرار مدينة واو، في ولاية غرب بحر الغزال، وهو ما رفضته قبائل أخرى، اعتبرت أن ذلك يهدف إلى تكريس الخلل في التوازنات العرقية لصالح قبيلة "الدينكا" التي تقطن في إقليم بحر الغزال. بل إن نائب الرئيس السابق زعيم المعارضة المسلحة رياك مشار اعتبر أن تلك الخطوة تهدف إلى تصعيد حدة الخلافات بين المؤيدين للفيدرالية وتوسيع نطاق الخيارات المتاحة أمام الرئيس سلفاكير.
ويبدو أن هذا الجدل هو الذي دفع الحكومة إلى تأكيد أن تنفيذ القرار سوف يستغرق فترة ربما لن تقل عن ستة سنوات، في ظل التعقيدات التي ما زالت تواجه عملية تنفيذه.
كما اتخذ الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي قرارا، في 7 مارس 2015، بإعلان مدينة عدن عاصمة مؤقتة لليمن، بالتوازي مع تأكيده على أن "صنعاء باتت عاصمة محتلة من قبل الميليشيات الحوثية". وقد تلى هذا القرار خطوات تنفيذية أخرى لنقل المؤسسات الرئيسية للدولة إلى عدن، على غرار نقل البنك المركزي والبرلمان.
فضلا عن ذلك، أعلنت مصر، خلال مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري، الذي عقد في مدينة شرم الشيخ خلال الفترة من 13 إلى 15 مارس 2015، عن مشروع بناء عاصمة جديدة، بتكلفة تصل- حسب تقديرات وزير الإسكان مصطفى مدبولي- إلى نحو 45 مليار دولار على أن يتم تنفيذه في مدة تتراوح بين خمسة إلى سبعة أعوام.
وعلى خلفية انهيار مبنى بلاسكو في العاصمة الإيرانية طهران، في 19 يناير 2017، جدد بعض نواب مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) دعوتهم لنقل العاصمة من طهران إلى إحدى المدن الرئيسية الأخرى، حيث بعث 73 نائبا في البرلمان رسالة إلى المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي يطالبونه فيها بدعم خطة لنقل العاصمة من طهران سبق أن وافق عليها البرلمان في ديسمبر 2013، خاصة بعد أن وجه انهيار المبنى تحذيرات بشأن عدم جهوزية العاصمة للتعامل مع مثل تلك الكوارث.
أهداف عديدة:
هناك عدة اعتبارات تفسر تزايد الاتجاه نحو تأسيس عواصم جديدة في بعض دول الإقليم، يتمثل أبرزها في:
1-اعتبارات اقتصادية تاريخية: استندت الاتجاهات الداعية إلى نقل عاصمة جنوب السودان من جوبا إلى مدينة رامشيل، إلى أن القائد التاريخي جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان والنائب الأول لرئيس الجمهورية قبل الانفصال، كان يتبنى هذا الاتجاه قبل مصرعه في حادث طائرة في 30 يوليو 2005.
لكن بعض الاتجاهات المؤيدة لنقل العاصمة استندت إلى مبررات اقتصادية أخرى، أهمها أن استمرار جوبا عاصمة للدولة يعرقل الجهود التي تبذلها الحكومة في جذب الاستثمارات الأجنبية، في ظل النزاعات القانونية المستمرة على الأراضي في جوبا، فضلا عن عدم ترحيب قاطنيها بقدوم مواطنين من المدن الأخرى أو أجانب للاستثمار على أراضيهم.
2- تكريس الشرعية الدستورية: وهو ما يبدو جليا في حالة اليمن، حيث هدف الإعلان عن تحويل مدينة عدن إلى عاصمة مؤقتة للدولة إلى تكريس الشرعية الدستورية الممثلة في الرئيس عبد ربه منصور هادي وفرض مزيد من الضغوط على التمرد الذي قادته حركة الحوثيين وقوات صالح وسيطروا من خلاله على العاصمة ومعظم مؤسسات الدولة، منذ سبتمبر 2014، بالتوازي مع العمليات العسكرية التي يشنها التحالف العربي لتحرير العاصمة صنعاء وبعض المدن الأخرى وإجبار الحوثيين وحلفائهم على تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2216.
3- تجنب المخاطر الطبيعية: على غرار الزلازل والتلوث، حيث أن العاصمة الإيرانية طهران تعاني من ارتفاع شديد في نسبة التلوث نتيجة ازدحامها بالسكان، كما أنها تقع على خط الزلازل. وقد وجهت تقارير إيرانية عديدة تحذيرات من إمكانية تعرض طهران لكارثة جراء زلزال مدمر قد يضربها، خاصة في ضوء افتقاد كثير من الأبنية في العاصمة لعوامل الأمان، وهو كشف عنه انهيار مبنى بلاسكو في يناير 2017.
وقد اتخذ الجدل حول نقل العاصمة من طهران بعدا سياسيا بعد أن وجهت بعض الأطراف انتقادات قوية للرئيس حسن روحاني بعدم منح أولوية لهذا الملف، نتيجة اهتمامه بملفات أخرى، وهو ما يرتبط، على ما يبدو، بمحاولة تلك الأطراف تقليص القاعدة الشعبية التي يحظى بها الرئيس قبيل الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى في 19 مايو 2017، لكن تلك الأطراف لن تستطيع تصعيد حدة انتقادات للحكومة في هذا الملف تحديدا، خاصة أن تلك الانتقادات يمكن أن تمس أحد أبرز كوادرها، وهو اللواء محمد باقر قاليباف رئيس بلدية طهران، الذي ربما يترشح لمنافسة روحاني في الانتخابات القادمة.
وفي السياق ذاته، استندت اتجاهات في السودان إلى المشكلات البيئية لإضفاء وجاهة على دعوتها لنقل العاصمة من الخرطوم التي تعاني، في رؤيتها، من "تردٍ بيئي"، نتيجة الاستخدام السيئ للأراضي وعدم التعامل مع مشكلة النفايات بشكل إيجابي.
4-تخفيف الأعباء عن العاصمة القديمة: ويمثل ذلك أحد أهداف اتجاه مصر إلى إنشاء ما يسمى بـ"العاصمة الإدارية"، حيث أشارت الاتجاهات المؤيدة لهذه الخطوة إلى أنها سوف تساعد في تخفيف الزحام وتراجع نسبة التلوث في القاهرة، خاصة مع نقل مقرات المؤسسات الرسمية إلى العاصمة الجديدة على غرار الوزارات والبرلمان والسفارات وغيرها، حيث يمكن أن يساعد ذلك، وفقا لتلك الرؤية، في دعم الجهود التي تبذلها الحكومة لجذب مزيد من الاستثمارات وتفعيل خطط التنمية، إلى جانب معالجة مشكلة الكثافة السكانية.
وهناك نماذج أخرى لنقل العواصم للأسباب نفسها، مثل نقل العاصمة النيجيرية من لاجوس إلى أبوجا، في 12 ديسمبر 1991، حيث استندت الاتجاهات المؤيدة لعملية النقل إلى الازدحام السكاني في لاجوس، والذي فرض تداعيات سلبية على البنية التحتية والخدمات المقدمة للمواطنين. لكن اتجاهات أخرى اعتبرت أن السبب الرئيسي في اختيار أبوجا يعود إلى كونها "مدينة محايدة" في ظل التشابك العرقي والإثني الذي يتسم به المجتمع النيجيري، بما يعني أن الهدف من نقل العاصمة إليها كان يتمثل في الأساس في محاولة تجنب تفاقم النزاعات العرقية والإثنية التي تشهدها بعض المدن في نيجيريا.
نقل مشروط:
خلاصة القول إن الاتجاه نحو نقل بعض العواصم التقليدية في عدد من دول الإقليم، سوف يرتبط بمتغيرات عديدة، يتمثل أهمها في مدى قدرة تلك الدول على تحييد المشكلات العديدة التي تواجهها عواصمها التقليدية، ومدى ارتباط ذلك بالجهود التي تبذلها من أجل استقطاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، أو تجنب تصاعد حدة التوتر بين مكوناتها الإثنية والعرقية.