حققت روسيا وإيران، على ما يبدو، عددًا من المكاسب الاقتصادية الجديدة في سوريا خلال الآونة الأخيرة، والتي منحها النظام السوري للطرفين تعويضًا عن الدعم العسكري والمالي اللذين قدمهما له الطرفان منذ اندلاع الصراع في عام 2011.
ففي يناير 2017، أبرمت إيران عددًا من مذكرات التفاهم الاستثمارية مع النظام السوري، تنطوي على استغلال ثروات البلاد من النفط والفوسفات. وفي المسار نفسه، برزت مساعٍ روسية جادة منذ عام 2013 لاستغلال ثروات سوريا من النفط والغاز الطبيعي.
وعلى الرغم من أن مصالح روسيا وإيران قد تبدو متطابقة في سوريا، حيث تكشف مؤشرات عديدة عن أن كلا منهما يتطلع إلى تعزيز نفوذه التجاري والاستثماري في البلاد؛ إلا أن هناك عددًا من العوامل التي تُرجِّح عدم اندفاع الطرفين إلى صدام محتمل حول تقاسم المكاسب الاقتصادية في سوريا على الأقل خلال المرحلة الحالية، وهو ما يعود إلى اعتبارات مختلفة منها إدراك كل طرف أهمية الطرف الآخر في إدارة الصراع السوري، والرغبة في تقاسم الأعباء الاقتصادية لإعادة إعمار سوريا، فضلا عن حجم المصالح الاقتصادية التي تربط الطرفين.
مكاسب محتملة
لا يبدو -بطبيعة الحال- أن المصالح الاقتصادية هى السبب الوحيد لانخراط بعض القوى الدولية والإقليمية في تفاعلات الصراع السوري منذ عام 2011. فطبقًا لأساسيات الاقتصاد السوري، يبدو حجم المكاسب الاقتصادية التي يمكن أن يحققها أى طرف ضئيلة في ظل صغر حجم السوق السورية، وضعف الموارد الطبيعية مقارنةً بدول الجوار الإقليمي.
ومع ذلك، فإن تزايد رغبة الشركات العالمية في استغلال ثروات سواحل البحر المتوسط من النفط والغاز الطبيعي، بما فيها السواحل السورية، في السنوات الماضية؛ رفع نسبيًّا من جاذبية السوق السورية. وبحسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، يقدر حجم الاحتياطيات المؤكدة من النفط بالبلاد بنحو 2.5 مليار برميل بجانب 8.5 تريليونات قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.
وبالإضافة إلى ما سبق، تُدرك أطراف دولية عديدة، بما فيها روسيا وإيران اللتان تطمحان إلى السيطرة على سوق الغاز الطبيعية العالمية، أهمية موقع سوريا، كونها ممرًا محتملا لشبكة أنابيب النفط والغاز إلى الأسواق الأوروبية. وفي هذا الصدد، وقعت إيران مع سوريا، في عام 2011، اتفاقية لمد أنبوب ينقل الغاز الإيراني عبر العراق وسوريا لتصديره عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا. وبغض النظر عن الموارد النفطية، قد تبدو الفرصة سانحة أيضًا لدى مختلف الأطراف الدولية لجنى مكاسب إضافية عبر تعزيز مبادلاتها التجارية مع سوريا.
كما أن للحضور العسكري والسياسي في سوريا أهمية أكبر في زيادة النفوذ للأطراف الدولية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، وهو ما يؤكده ارتفاع حظوظ الشركات الروسية في المنطقة في عدد من القطاعات الاقتصادية منذ التدخل العسكري في سوريا في سبتمبر 2015.
نفوذ متصاعد
قدمت كل من إيران وروسيا دعمًا ماليًّا وعسكريًّا كبيرًا للنظام السوري منذ اندلاع الصراع في الأراضي السورية في أوائل عام 2011، ولولا ذلك الدعم الذي وصل إلى ذروته مع التدخل العسكري الروسي في سبتمبر 2015، لانهار النظام السوري سريعًا. ويبدو أن ذلك هو ما دفع الأخير إلى منح بعض المزايا التجارية والاستثمارية طويلة الأجل لكل من الشريكين الروسي والإيراني.
وفي هذا الصدد، أبرم النظام السوري مع إيران، في يناير 2017، 5 مذكرات تفاهم تنطوي على استغلال 5 آلاف هكتار بالبلاد (أى ما يوازي 12.3 ألف فدان) لمدة 25 عامًا لاستخراج الفوسفات والزراعة، وإنشاء ميناء نفطي في البلاد، بالإضافة إلى الحصول على رخصة تشغيل خدمات الاتصالات بالبلاد. وعلى مدار السنوات الماضية، منح النظام السوري أفضلية للمنتجات الإيرانية للدخول للسوق السورية بعدما وقع على اتفاقية التجارة الحرة مع إيران في عام 2011، وهو ما عزز من الصادرات الإيرانية في سوريا، حيث ارتفعت من مستوى 1.2 مليار دولار في عام 2010 إلى 1.8 مليار دولار بنهاية عام 2015.
وواقع الأمر إن حجم المكاسب الروسية الاقتصادية المعلن عنها بسوريا قد لا يُضاهي حاليًّا حجم ما أُعلن عنه بالنسبة لإيران. وبالرغم من ذلك، فإن الجانب السوري الذي يسعى لإعادة تأهيل وتشغيل حقول النفط ومحطات الطاقة في المناطق التي يسيطر عليها، حرص على تقديم أقصى الامتيازات للاستثمارات الروسية، وهو ما أكده تصريح وزير الخارجية وليد المعلم خلال لقائه نائبَ رئيس الوزراء الروسي ديمتري روغوزين في نوفمبر 2015، حيث قال: "شركة روسية واحدة وقّعت بالفعل عقدًا.. ودمشق تنتظر الشركات الأخرى على أن تحذو حذوها. سوريا مستعدة لتقديم جميع الحوافز الممكنة للشركات الروسية".
وفي عام 2013، وقّعت وزارة النفط السورية عقدًا مع شركة "سيوزنفتاغاز ميست إيد" الروسية للتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي من جنوب ساحل مدينة طرطوس إلى محاذاة مدينة بانياس. والمنطقة السابقة التي تمتد مساحتها لنحو 2190 كلم مربعًا على ساحل البحر المتوسط، تعزز من دور روسيا -من دون شك- كطرف في منطقة البحر المتوسط.
وعلى الرغم من أهمية الاتفاقيات السابقة، يبدو أن هناك عددًا من الصعوبات الحالية أو المستقبلية التي ربما تحول دون الاستفادة القصوى منها، وتتصل بارتفاع المخاطر الأمنية والسياسية بالبلاد حاليًّا. أما مستقبليًّا فتنصرف إلى مدى التزام النظام السياسي السوري المقبل، الذي قد يتأسس بعد الوصول إلى تسوية، بمثل هذه الاتفاقيات، بالإضافة إلى مدى تعاون المجتمع الدولي معهما لتنفيذها. ولكن على أية حال، تؤسس هذه الاتفاقيات -من دون شك- لنفوذ إيراني وروسي لا يمكن تجاهله.
محددات عديدة
يتوقف تنسيق المكاسب الاقتصادية بين روسيا وإيران في الأراضي السورية على عدد من المحددات، التي تتمثل في:
1- إدارة الأدوار المكملة: برز مؤخرًا عدد من النقاط الخلافية بين إيرن وروسيا حول ملف إدارة الصراع في سوريا. ومن أهمها القلق الإيراني من التفاهمات الروسية-التركية، والتي تعتبر طهران أنها يمكن أن تؤدي إلى إضعاف دورها داخل سوريا. إلى جانب رفض إيران مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في مؤتمر الآستانة الذي عقد يومي 23 و24 يناير 2017، بشكل قد يهدد الحوار الروسي- الأمريكي بشأن سوريا.
وعلى الرغم من الخلافات السابقة، يبدو أن حدود التقارب بين الجانبين الروسي والإيراني أكبر بكثير من حدود الاختلاف، بما يمنح الطرفين فرصًا أكبر في تجاوز الخلافات حول مبادرات حل الصراع السوري. وبطبيعة الحال، يظل الدور العسكري، الروسي والإيراني، مكملا للآخر، ومهمًّا لزيادة نفوذ كل منهما على الصعيد السياسي والاقتصادي. وبعبارة أخرى، يمكن القول إنه لولا التحالف القائم بين الطرفين لما استطاع أيٌّ منهما تعزيز أية مكاسب اقتصادية مؤكدة.
2- المصالح الاقتصادية: واقع الأمر إن المصالح الاقتصادية المتبادَلة بين إيران وروسيا أصبحت أكثر ترابطًا واتساعًا من أى وقت مضى. فإيران في حاجة شديدة لروسيا -التي تطمح إلى تعزيز حضورها بالشرق الأوسط- لضخ استثماراتها من أجل إعادة تأهيل قطاع النفط والغاز الطبيعي بالبلاد.
ومنذ رفع العقوبات الاقتصادية على إيران في يناير 2016، وقعت بعض الشركات الروسية عددًا من الاتفاقيات الاستثمارية مع الحكومة الإيرانية، على غرار الاتفاق المبدئي الذي يقضي بقيام شركة "غازبروم" الروسية بتطوير حقلى الغاز الإيرانيين "جشمه خوش" و"جنكولة" المتاخمين للحدود العراقية. وفي الوقت نفسه، رحبت إيران بالرغبة الروسية في الاستثمار في مشروع خط الغاز التاسع الإيراني المخطط أن يصل إلى الأسواق الأوروبية. كما أن كلا الطرفين يطمح إلى مضاعفة التبادل التجاري من مستوى يبلغ 1.3 دولار في عام 2015 إلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2020.
3- تقاسم الأعباء: تُشير التقديرات الأولية إلى أن المبالغ المطلوبة لإعادة إعمار سوريا كبيرة للغاية. وبحسب تقدير البنك الدولي، قد تصل هذه الأموال إلى حدود 180 مليار دولار. وبطبيعة الحال، لا يبدو أن طرفًا واحدًا بمقدوره تحمل أعباء تكاليف إعادة الإعمار منفردًا. وفي هذا الصدد قال مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين: "إن إعادة إعمار سوريا تتطلب نحو 180 مليار دولار، وهى تكاليف لا يمكن لبلد واحد أو اثنين معًا تحملها، وتحتاج إلى حملة دولية لجمعها". وهذا يعني أن إيران وروسيا -في كل الأحوال- بحاجة للتنسيق المشترك من أجل تقاسم أعباء الانخراط والمشاركة في مثل هذا الملف.
4- الخيارات البديلة: يبدو أن خطط كلٍّ من إيران وروسيا للشروع في تصدير أو نقل الغاز الطبيعي عبر سوريا غير وشيكة التنفيذ على المدى المتوسط، ليس فقط لارتفاع المخاطر الأمنية المحتملة، وإنما لاعتبارات الكفاءة الاقتصادية أيضًا. فبالنسبة لكل من إيران وروسيا، فإن الخيار الأوفر حظًّا حاليًّا هو تعزيز إمكانات مد خطوط أنابيب مع تركيا للوصول إلى السوق الأوروبية، وهو ما فعلته روسيا بالفعل عندما صادق مجلس النواب الروسي، في 20 يناير 2017، على مشروع "السيل التركي" لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا. كما تتطلع إيران بدورها لمد خط أنابيب عبر تركيا للوصول للأسواق الأوروبية، وذلك من خلال خط أنابيب الغاز الإيراني التاسع، وهو ما أكده عدد من المسئولين الإيرانيين في مناسبات عديدة.
وختامًا، يمكن القول إن السيناريو الأوفر حظًّا للتحقق هو التزام روسيا وإيران بالتنسيق المشترك فيما بينهما، حفاظًا على تعظيم المكاسب الاقتصادية المحتملة في سوريا، لا سيما أن خيار الاندفاع إلى الصراع سينتج خسائر لكلا الطرفين، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي أيضًا.