أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

معادلات مختلفة:

هل تهدف إسرائيل إلى التصارع الداخلي في غزة؟

17 يوليو، 2014


يؤكد العدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة أنه طالما هناك يمين إسرائيلي متربص لا يتورع عن سفك الدماء لاسترضاء لوبي الاستيطان، وطالما أن هناك قوى فلسطينية لاتزال مصرة على التعاطي مع قضية شعبها من منظور فصائلي ضيق وليس على أرضية جامعة تأخذ بعين الاعتبار أولويات المشروع الوطني الفلسطيني، فسوف تستمر "عمليات المتاجرة" بدماء الأبرياء من أهلنا في فلسطين.

ومرة تلو أخرى يثبت هذا العدوان أنه طالما أن قطاع غزة يرتبط بمصر برابطة "جيوسياسية" من نوع خاص جداً، فليس بمستغرب أبداً أن تطال القاهرة من آن لآخر بعض شظايا تلك المزايدات المخضبة بالدماء، وأن ما تراكم لدى الأجهزة المصرية المعنية من معلومات وتقديرات بشأن مآلات العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة جدير بأن يجعل من مصر الطرف الأكثر حرصاً - حتى من بعض الفلسطينيين أنفسهم - في المرحلة الراهنة على العودة إلى التهدئة من جديد، بالطبع ليس حباً في حماس، أو رغبة في بقائها كطرف يتحكم بالقطاع، ولكن على قاعدة أخف الضررين.!

سيناريو التصارع داخل غزة

صحيح أن نظام حماس في غزة  كان قد انتقل، نتيجة مواقفه خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، في علاقته مع النظام المصري من خانة "الكيان غير الحليف" إلى "الكيان شبه المعادي"، لكن هذا لا ينفي أن القاهرة ما تزال تفرق – تماماً - بين إضعاف حماس من خلال صيغة معينة تتخذها عملية المصالحة (تضمن انتقالاً غير خشن للسلطة) وبين العملية العسكرية التي تباشرها إسرائيل الآن، والتي قد لا تفضي فقط إلى ردع حماس، أي إفقادها الرغبة والقدرة على التصعيد وإطلاق الصواريخ دون المس بقدرتها على الاستمرار في السيطرة على الاوضاع في القطاع على النحو الذي حدث خلال عمليتي الرصاص المصبوب في ديسمبر 2008 ويناير 2009، وعمود السحاب في نوفمبر 2012، وإنما إلى التأسيس منذ الآن لسيناريو "تدعيش غزة" حتى ولو لم يكن هذا ما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه بالفعل.!

والمقصود هنا بــ "تدعيش غزة" ألا يكون لها رأس واحد يحكم، أو عنوان استراتيجي ثابت يمكن ردعه والتفاوض معه، نتيجة سقوط القطاع (ليس الآن بالضرورة ولكن عما قريب) بين أيدي جماعات مسلحة متعددة تتصارع فيما بينها على النفوذ والسلطة. بعبارة أخرى، ثمة مخاوف من أن مسرح العمليات على جبهة غزة أصبح مهيأً لاندلاع مواجهات (ليس بالضرورة المواجهة الحالية وإنما في المستقبل القريب) قد لا يتوقف تأثيرها عند حدود ردع حماس على النحو الذي سبق ذكره، وإنما تتجاوز ذلك إلى حيث الإضعاف الشديد الذي يمس قدرة الحركة على الاستمرار في السيطرة على المجال العام في غزة، على النحو الذي يغري الجماعات المسلحة الأصغر في القطاع بمناطحتها والصراع معها على السلطة والنفوذ.

وهنا علينا ألا ننسى أن الدولة الإسلامية كانت قد أُعلنت بالفعل من قبل تنظيم "جند أنصار الله" في أحد مساجد رفح جنوب غزة، في أغسطس 2009، لكن قدرة حماس آنذاك هي التي حسمت الأمر، حيث قتلت كتائب القسام منهم 24 شخصاً، بينهم القيادات الرئيسية للجماعة مثل عبداللطيف موسى، وأبو عبدالله المهاجر. وعلينا أيضاً أن نلتفت إلى أن عدد المتطوعين الفلسطينيين من قطاع غزة ممن التحقوا بصفوف المقاتلين في جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" ضد نظام الأسد في سوريا، بات في صعود ابتداء من العام الماضي.

وكانت التنظيمات السلفية في قطاع غزة قد أعربت عن تأييدها العلني للقتال في سوريا ضد نظام الأسد. ففي 17 فبراير 2013، ذكر أبوالغني الأنصاري (تنفيذي سابق في أحد تنظيمات السلفية الجهادية في قطاع غزة) أن ما بين 70 إلى 80 من الشباب غادروا قطاع غزة إلى سوريا للمشاركة في القتال إلى جوار تنظيمات سلفية جهادية، مثل جبهة النصرة. ومن المتوقع أن يكتسب هؤلاء المتطوعون خبرة عسكرية، وتدريباً أيديولوجياً، وروابط مع جماعات تنتمي إلى القاعدة والجهاد العالمي. وعند عودتهم إلى قطاع غزة، سيصبحون مصدراً لخطر كبير.

حماس على خطى حزب الله؟

وعلى الرغم من أن ثمة آراء تستبعد أن تؤدي العملية العسكرية الإسرائيلية "الجرف الصامد" إلى التقدير السابق، قياساً فيما يبدو على الاستراتيجيات التي طبقتها إسرائيل خلال عملية "الرصاص المصبوب" وكذلك خلال عملية "ركيزة الدفاع- 2012"، والتي اعتمدت على منع مفاقمة الأوضاع في غزة، انطلاقاً من التفضيل الإسرائيلي لنظرية وجود طرف قوي في غزة يمكن ردعه والتفاوض معه، حتى ولو كانت حركة حماس؛ فإن هذه الآراء لا تأخذ في الاعتبار اختلاف الوضع الراهن إلى القدر الذي قد لا يعيد إنتاج ما سبق، لأنه في عالم الصراع والسياسة من النادر أن يكون هناك وضع قائم ممتد، خاصة أن حماس آنذاك ليست هي حماس اليوم.

لقد كانت حماس أيام "الرصاص المصبوب" و"عمود السحاب" في موقع الطرف الحاكم والمسؤول عن غزة، ومن ثم كانت اعتبارات المسؤولية والحفاظ على السلطة بمنزلة محددات مركزية لخيارات الحركة العسكرية والعملياتية، ولهذا كان هناك دائماً استعداد من قبل الحركة للقبول بالتسويات وأنصاف الحلول. أما الآن فالوضع أصبح مختلفاً بعد اتفاق المصالحة الذي وقعته حماس مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبومازن في أبريل الماضي، وبعد تشكيل حكومة التوافق الوطني في شهر يونيو؛ فقد تركت حماس الآن الحكومة وإن كانت ما تزال تتحكم.. تركت الكرسي وأبقت على الدور الذي تلعبه. وهذا برنامج مختلف تماماً عن البرنامج الذي تبنته الحركة منذ عام 2007 ووقت المواجهتين السابقتين مع إسرائيل. إنه باختصار محاولة من قبل حماس لاقتباس نهج "حزب الله" اللبناني وزرعه في فلسطين، أي "نقاتل دون أن نكون المسؤولين عن السلطة أو الدولة".

هل تسقط غزة بيد جماعات متعددة؟

ولا شك أن تغير الوضع الاستراتيجي لأحد طرفي المواجهة ذو أثر حتمي في الحسابات الاستراتيجية  للطرف الآخر، أي إسرائيل. والأهم من هذا وذلك، أن القول بأن خيارات إسرائيل في المواجهة الراهنة - أو حتى القادمة - تتمثل فقط في إعادة إنتاج ما سبق، معناه أننا نسقط من حساباتنا الأثر الاستراتيجي الذي يمكن أن يُحدثه تطور القدرات الصاروخية للفصائل الفلسطينية، في إعادة صياغة وبلورة الخيارات الإسرائيلية تجاه غزة.

وهنا يحتاج الأمر لبعض التوضيح من خلال ما يلي:

أولاً: من المعلوم أن إسرائيل تقدر، وبشكل صحيح، أنه من السهل اختراق الضفة الغربية بسبب الكثافة السكانية المنخفضة نسبياً، ولكن من الصعب احتوائها من الخارج بسبب حجمها وطول الخط الأخضر (أكثر من 300 كم). غزة على النقيض، من السهل احتوائها ولكن من الصعب اختراقها بسبب صغر حجمها وكثافتها السكانية العالية. تعبر التحركات الإسرائيلية بوعي كبير عن هذه الاختلافات، ولذلك في عملية "الدرع الواقي" في مارس عام 2002، حين سعى جيش الاحتلال إلى تحقيق انتصار حاسم أثناء الانتفاضة الثانية، دخلت إسرائيل الضفة واستولت مؤقتاً على المدن الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، واقتحمت الخنادق على عناصر المقاومة سواء بهدف التصفية الجسدية أو الاعتقال. لكن في غزة اتخذت إسرائيل مساراً مختلفاً، لأنه من الصعب اختراقها، ولكن يُفترض أنه من السهل احتوائها من الخارج؛ ولهذا قررت إسرائيل أن تنسحب منها بشكل أحادي الجانب في عام 2005.

وحتى قبل الشروع في عملية "الرصاص المصبوب" عام 2008 كانت خبرة عملية "الدرع الواقي" في الضفة ما تزال حاضرة، لكن حكومة نتنياهو أحجمت عن تنفيذ هذه الاستراتيجية، وقامت بالأحرى بعملية برية محدودة وضعت بهدف إضعاف البنية التحتية لحماس، لكن دون المساس بقدرتها على الإمساك بالسلطة في غزة. والسبب الرئيسي في رفض نتنياهو لعملية مماثلة للدرع الواقي أن إسرائيل تريد تكريس الانقسام، مع الإبقاء على حماس كعنوان استراتيجي في القطاع يمكن ردعه والتفاهم معه. وجرى اعتماد الاستراتيجية ذاتها أيضاً خلال عملية "ركيزة الدفاع" عام 2012، حيث اختارت إسرائيل القيام بعملية محدودة، لا تشتمل على غزو بري من أي نوع.

ثانياً: قوض التطور الصاروخي للفصائل الآن فرضية أن غزة يمكن احتوائها من الخارج. وفي المقابل، فإن تعزيز الوضع الراهن معناه – بالحسابات الإسرائيلية – أن المخاطر تتزايد بمرور الوقت نتيجة التطور المضطرد في قدرات الفصائل العسكرية، والصاروخية منها بشكل خاص. تزايد "المخاطر" على هذا النحو لم يُبقِ - بحسابات بعض الصقور في إسرائيل - لنظرية العنوان الاستراتيجي الثابت أية أهمية تذكر؛ وعليه فمن الجائز جداً أن تتبنى إسرائيل الاستراتيجية نفسها التي طبقتها في الضفة خلال عملية "الدرع الواقي" في 2002.

هذه التقديرات، مع اعتبارات أخرى، كانت الدافع وراء محاولات حثيثة بذلتها القاهرة منذ ما قبل شن العدوان لنزع فتيل الأزمة، ثم كررتها بمبادرة وقف إطلاق النار التي أعلنتها رسمياً مساء الثلاثاء الماضي، لكن يبدو أن البعض لايزال مصراً على عدم الاستفادة من دروس الماضي.

إن سقوط غزة بيد جماعات متعددة ليس السيناريو الأسود بالنسبة لإسرائيل، كما يتصور البعض للوهلة الأولى، طالما أن هذه الجماعات ستنفق الكثير من الوقت في صراعها ضد بعضها البعض بأكثر مما تفعل ضد إسرائيل، كما نرى اليوم في سوريا، حيث حقق النظام السوري مكاسب كبيرة إلى حد كبير بسبب انشغال "داعش" بقتال جبهة النصرة وجماعات أخرى بأكثر من انشغالها بقتال النظام.

في غزة، ربما يكون الأمر مختلفاً قليلاً، لكن بالتأكيد غزة تحت حكم الجهاديين ستعزز من التنسيق المصري ـ الإسرائيلي لإحباط التهديد، ناهيك عن أن إسرائيل آنذاك ستكون قد وسعت من عمق الشريط المحتل داخل غزة، ليصل إلى ألفي متر وربما ثلاثة، بدلاً من الألف متر الحالية.