أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تأثير متصاعد:

أبعاد الدور الاقتصادي الجديد للصين في المنطقة

02 سبتمبر، 2018


تزايد الحضور الاقتصادي الصيني في منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة الأخيرة بشكل لافت، في الوقت الذي تعاني فيه بعض دول المنطقة من أزمات سياسية طارئة من المتوقع أن تفرض صعوبات اقتصادية لها. ويتجلى ذلك في مؤشرات عديدة يتمثل أبرزها في إتاحة التمويلات التنموية للدول المأزومة، وتعزيز مشاركة الشركات الصينية في القطاعات الاقتصادية المختلفة، ومساعدة بعض الدول، على غرار إيران، في تسويق نفطها. ورغم حرص الصين على الترويج لدورها باعتبارها فاعلاً تنمويًا وليس جيوسياسيًا، إلا أن رغبتها في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في المستقبل سوف تدفعها تدريجيًا للتخلي عن دورها السياسي المتحفظ.

أزمات طارئة:

تمر عدة دول بمنطقة الشرق الأوسط، في المرحلة الحالية، بظروف استثنائية على ضوء متغيرات دولية وإقليمية طارئة فرضت صعوبات اقتصادية حادة. وتعد تركيا إحدى هذه الدول التي تعاني من أزمة اقتصادية تفاقمت مؤخرًا جراء تراجع الليرة بالتزامن مع توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وتدخل السلطات التركية بالضغط على البنك المركزي للإبقاء على أسعار الفائدة دون ارتفاعها، وهو ما نجم عنه تدهور العملة بأكثر من ثُلث قيمتها منذ بداية العام وحتى الآن لتصل الآن إلى6.3  ليرة مقابل الدولار.

أما بالنسبة لإيران، فقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عليها عقوبات اقتصادية، منذ أغسطس الجاري، على أن يتم رفع مستواها في نوفمبر القادم، بحيث تمتد إلى كافة الأنشطة الاقتصادية وخاصة النفط، على نحو سوف يترتب عليه انكماش اقتصادي واسع نتيجة تراجع صادراتها النفطية بكميات لا تقل عن نصف مليون برميل، بجانب وقف الشركات الأجنبية، الأوروبية والأمريكية، استثماراتها في السوق الإيرانية.

وبخلاف ذلك، لا تزال الآفاق السياسية- على الرغم من تحسنها نسبيًا في العامين الماضيين- للعديد من دول المنطقة غير مستقرة نتيجة التوترات الاجتماعية والسياسية وأعباء أزمة اللاجئين التي تشهدها، وهو ما ينتج بدوره ضغوطًا اقتصادية مستمرة على بعض دول المنطقة، في الوقت الذي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة لتمويل مشروعاتها التنموية. وعلى سبيل المثال، تحتاج منطقة الشرق الأوسط سنويًا إلى ما لا يقل عن 100 مليار دولار حتى عام 2030 للحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها. 

في مقابل ذلك، باتت الصين، في السنوات الماضية، أكثر انفتاحًا في علاقاتها السياسية والاقتصادية مع كثير من مناطق العالم ومن بينها منطقة الشرق الأوسط. وتحظى المنطقة بأهمية كبيرة بالنسبة للسياستين الداخلية والخارجية الصينية. فمن ناحية، تمارس إمدادات المنطقة من النفط دورًا رئيسيًا في تأمين الطاقة لديها، حيث تحصل على حوالي نصف وارداتها السنوية من النفط من دول مختلفة بالشرق الأوسط.

في حين تعد المنطقة ركيزة أساسية في مبادرة "طريق الحرير الجديد" التي دشنتها الصين بداية من عام 2013 لربط الغرب الصيني بآسيا الوسطى وأوروبا مرورًا بعدة دول بالشرق الأوسط، من بينها إيران. ومن أجل ذلك، طرحت الصين مشروعات ضخمة للبنية التحتية من الطرق والنقل البري والبحري لتحقيق أهداف المبادرة. فضلاً عن ذلك، تبدي الصين اهتمامًا خاصًا بتوسيع نطاق التعاون الأمني والعسكري مع كافة دول المنطقة ليس لتأمين مصالحها الاقتصادية بها فقط وإنما لتحجيم امتداد التنظيمات الإرهابية في المنطقة وآسيا أيضًا.

آليات مختلفة:

مارست الصين دورًا استثنائيًا مؤخرًا في دعم بعض اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وسط أزماتها المتعددة وهو ما يبدو جليًا في المؤشرات التالية:

1- تمويل بديل: توسعت مؤخرًا مؤسسات التمويل الصينية في إقراض بعض حكومات منطقة الشرق الأوسط وشركاتها لتنفيذ مشروعاتها التنموية، ولتصبح بذلك أحد مصادر التمويل الإضافية المتاحة أمامها. ويأتي ذلك وسط تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية في بعض تلك الدول وذلك على غرار تركيا، التي حصلت مؤخرًا على حزمة قروض من مؤسسات مالية صينية بقيمة 3.6 مليار دولار لاستخدامها في استثمارات بقطاعى الطاقة والنقل بحسب تصريح وزير المالية التركي بيرات ألبيرق في يوليو الماضي.

ومن المقرر أيضًا أن تتجه تركيا لإصدار سندات مقومة باليوان للمرة الأولى، وذلك في خطوة لتنويع مصادر التمويل بخلاف السندات الدولارية والمقومة باليورو. وسبق ذلك بسنوات أن توصلت تركيا والصين- على غرار صفقات مع دول أخرى في المنطقة- إلى اتفاق لتبادل العملات بقيمة 10 مليار يوان في عام 2012، ثم قام الجانبان، في عام 2015، بتمديد فترة الاتفاق لمدة 3 أعوام لتصل القيمة إلى 12 مليار يوان (1.88 مليار دولار).

وعلى نحو أوسع، تعهد الرئيس الصيني شي جين بينج، خلال الدورة الثامنة لمنتدى التعاون الصيني- العربي، في يوليو الماضي، بتقديم حزمة تشمل قروضًا تبلغ 20 مليار دولار للمنطقة العربية، وذلك بجانب مساعدات مالية بحوالي 106 ملايين دولار للأردن وسوريا ولبنان واليمن والأراضي الفلسطينية. كما من المقرر إنشاء كونسورتيوم بنوك من الصين ودول عربية يخصص له تمويل قدره 3 مليار دولار.

2- مشتري استثنائي: تبنت الصين منذ البداية موقفًا معارضًا لانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015. ورفضت وزارة الخارجية الصينية العقوبات الأمريكية الجديدة على إيران باعتبارها أحادية الجانب، وهو ما دفع بكين للتأكيد، في مناسبات مختلفة، على استمرارها في التعاون التجاري مع إيران، على نحو لا ينتهك، في رؤيتها، أى قرارات لمجلس الأمن الدولي.

ونظرًا لأهمية النفط في العلاقات التجارية بين البلدين، ألمحت شركات النفط الصينية إلى استمرار استيراد النفط الإيراني رغم حث الجانب الأمريكي دول العالم على وقف استيراده من إيران، على غرار شركة "سينوبك"، أكبر شركة تكرير في الصين، التي أكدت، في بيان لها في أغسطس الفائت، على تضرر مصافيها إذا توقفت عن استيراد الخام الإيراني، فيما قامت شركتا تجارة النفط "تشوهاي تشنرونج" و"بتروتشاينا" بتفعيل بند في اتفاقيات التوريد الطويل الأجل المبرمة مع شركة النفط الوطنية الإيرانية يسمح لهما باستخدام ناقلات تشغلها الشركة الإيرانية وتكرير النفط الإيراني الثقيل.

وفي الوقت نفسه، زادت الترجيحات الدولية بإمكانية أن تُقبل شركة "سي إن بي سي" الصينية على شراء حصة شركة "توتال" الفرنسية في تطوير حقل بارس الجنوبي والبالغة 50.1% لتزيد حصتها الإجمالية إلى 80.1% وذلك بعد تأكيد "توتال" تخارجها من السوق الإيرانية خشية العقوبات.

 3- حضور متزايد للشركات: يتسع حضور الشركات الصينية في أسواق منطقة الشرق الأوسط تدريجيًا وليشمل كافة القطاعات الاقتصادية وإن كانت أعمالها تتركز حتى الآن بشكل كبير في قطاع الموارد الطبيعية خاصة النفط، بجانب الإنشاءات والمقاولات والصناعات التحويلية. وعلى مدار الأشهر الماضية، وقعت الشركات النفطية الصينية عقودًا للتنقيب وإنتاج النفط مع عدد من دول المنطقة. وعلى سبيل المثال، وقعت وزارة النفط العراقية عقدًا مع شركة "جنهوا" الصينية لتطوير حقل نفط شرقي بغداد-الجزء الجنوبي، وذلك بجانب شركات صينية أخرى بالعراق أهمها "سي إن بي سي".

وبخلاف ذلك، يبدو أن الشركات الصينية تتطلع للعمل في قطاعات أخرى مثل شركة "إس دي آي سي" الصينية التي استحوذت على حصة شركة "نيوترين" الكندية والبالغة 28% مقابل 502 مليون دولار في شركة "البوتاس" العربية الأردنية للفوسفات. كما أبدت الشركات الصينية اهتمامها بزيادة استثماراتها بقطاع السيارات الواعد بالمغرب، ومنها شركة "سيتيك ديكاستال" الصينية، حيث تعتزم استثمار 410 مليون دولار لبناء مصنعين لإنتاج عجلات السيارات الألومنيوم بشمال المغرب، كما وقعت شركة "بي واي دي" الصينية لصناعة السيارات، في ديسمبر الماضي، اتفاقًا مع المغرب لإنشاء مصنع للسيارات الكهربائية قرب مدينة طنجة.

تحولات محتملة:

مما سبق، يتضح أن الصين باتت تمارس دورًا متزايدًا في النشاط الاقتصادي بمنطقة الشرق الأوسط، وفي مجالات مختلفة بما فيها تمويل المشروعات التنموية بالمنطقة، على غرار دور المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، وهو ما يلقى ترحيبًا من جانب دول الشرق الأوسط التي تبحث عن بدائل- وإن كانت تكتيكية- للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي.

وعلى الرغم من الخطاب الصيني المتكرر الذي يحرص على الترويج بأنها فاعل تنموي، إلا أن اتساع نطاق مصالحها الاقتصادية في المنطقة سوف يضطرها تدريجيًا للتدخل من أجل التأثير على مجريات الأوضاع السياسية في عدد من دولها، في الوقت الذي سوف يعمل فيه ذلك على تعزيز ثقلها الجيوسياسي، وهو ما يضعها في تنافس لدعم النفوذ مع بعض القوى الكبرى داخل المنطقة عاجلاً أم آجلاً.