أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تفجيرات باريس:

محددات انخراط فرنسا في الأزمة السورية

16 نوفمبر، 2015


شهدت العاصمة الفرنسية "باريس" يوم الجمعة الموافق 13 نوفمبر الحالي عدداً من الهجمات الإرهابية  المتوازية في 7 مواقع متفرقة، مما أدى إلى مقتل أكثر من 130 شخصاً، وإصابة أكثر من 200 آخرين، في هجمات إرهابية هي الأكثر دموية في فرنسا منذ عقود.

ومنذ اللحظات الأولى التي أعقبت هذه الهجمات بدا واضحاً أنها ترتبط بشكل وثيق بالسياسة الفرنسية إزاء تنظيم "داعش" الذي سبق وأن نفذ عملية عقابية ضد باريس هي عملية تشارلي إيبدو في العام الماضي. كما أعلن التنظيم مسؤوليته عن الهجمات الأخيرة في بيان أكد خلاله أنها تأتي "ثأراً لسوريا" وكرد فعل على مشاركة باريس في محاربة التنظيم، لاسيما في سوريا؛ وهو الأمر الذي يثير عدداً من علامات الاستفهام حول حدود تأثير تلك الهجمات على التعامل الفرنسي مع الأزمة السورية، وهل ستترك بصماتها على ثوابت باريس فيما يخص الملف السوري.

ملامح الانخراط الفرنسي في الأزمة السورية

تتحدد الملامح الرئيسة للنهج الذي تتبناه باريس في التعامل مع الحرب في سوريا، خاصة فيما يتعلق بالدور الذي يلعبه داعش، في عدد من النقاط، تحدد ما تستند إليه فرنسا من ثوابت وما تتبناه من متغيرات، ومن أبرزها:ـ

1 ـ القناعة بضرورة الحل السياسي:

تعكس التصريحات والسلوكيات الواردة من باريس بخصوص الملف السوري قناعة بأن "الحل السياسي" سيكون في مرحلة ما هو السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة التي تعيشها سوريا منذ 5 سنوات. وهذا ما يتبدى في تأكيد فرنسا المستمر على أنها تعمل على التوصل إلى حل سياسي في سوريا "لأنه وحده ينهي الصراع".

ويقوم التصور الفرنسي لمستقبل سوريا، على أن إيجاد حل لا يمر عبر بشار الأسد قد أضحى أمر ملح جداً، أي أن الانتقال السياسي في سوريا يجب أن يتم من دون وجود بشار الأسد على رأس السلطة، وهو ما يتطلب تجنب أي عمل يؤدي إلى تعزيز أو إبقاء الأسد، فرحيله مطروح في لحظة ما من الانتقال السياسي، وهذا ما يجب فعله لإيجاد انتقال ديموقراطي في هذا البلد، كما تحدثت باريس دوماً عن ضرورة التنسيق مع كافة الأطراف والدول التي في إمكانها تسهيل هذا الحل، لاسيما دول الخليج وروسيا وإيران.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن فرنسا تعارض العمليات العسكرية الروسية في سوريا، وتؤكد أن ما بين 80% إلى 90% من الغارات العسكرية الروسية لا تستهدف "داعش" بل تستهدف في المقام الأول تأمين الرئيس السوري بشار الأسد.

2 ـ محورية دور التحالف الدولي لمحاربة "داعش":

هناك اتفاق بين غالبية القوى المعنية بالملف السوري، لاسيما الدول الغربية ومنها فرنسا، على أن العدو الرئيسي  لهم هو "داعش"؛ ومن ثم كانت فرنسا عضواً أساسياً في التحالف الدولي الذي تكون من الدول الكبرى في المجتمع الدولي لمحاربة "داعش" في كل من العراق وسوريا.

وتقوم الرؤية الفرنسية في هذا السياق على ضرورة تعزيز التحالف الدولي الذي يقاتل التنظيم بسرعة تجنباً لمزيد من المذابح والتقسيم في البلدين. واستضافت باريس قمة تضم 24 بلداً في يوليو الماضي لبحث استراتيجية التحالف ضد "داعش".

وتعد الضربات الجوية هي العنصر المحوري في استراتيجية التحالف في مواجهة "داعش"،  وشاركت فرنسا في قصف أهداف لداعش في العراق، إلا أنها لم تكن تشارك في غارات التحالف الدولي ضده في سوريا، بدعوى أن ذلك "سيقوي نظام الأسد"، ثم بدأت فرنسا تشارك في العمليات العسكرية للتحالف في سوريا منذ سبتمبر الماضي، إذ أعلن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، أن طائرات استطلاع فرنسية ستحلّق فوق سوريا للحصول على معلومات عما يجري على الأرض والتمكن من ضرب "داعش" في سوريا مثلما هو الحال في العراق. وقبيل نهاية الشهر ذاته قامت فرنسا بقصف مواقع "داعش" في سوريا للمرة الأولى.

وشهد شهر أكتوبر الماضي قيام الطيران الحربي الفرنسي باستهداف مواقع لداعش في مدينة الرقة بشمال سوريا، والتي يوجد في نواحيها مراكز لتدريب المقاتلين الأجانب يتم إعدادهم لارتكاب عمليات إرهابية في فرنسا والأراضي الأوروبية، وفق التصريحات الرسمية الفرنسية. فيما شهد شهر نوفمبر الجاري قيام الطائرات الحربية الفرنسية بقصف محطات لضخ النفط في منطقة دير الزور الجنوبية الشرقية بهدف إضعاف القدرات المالية لداعش وتعطيل استغلال الموارد النفطية في المناطق الخاضعة لسيطرته.

3 ـ رفض إرسال قوات برية:

برزت بعض الأطروحات التي دعت باريس للتدخل على الأراضي السورية، بيد أن باريس تعتبر إن إرسال قوات على الأرض تعد مطلباً غير واقعي وليس مناسباً، لأن إدخال قوات فرنسية على الأرض سيجعلها تتحول إلى قوات احتلال، وهو ما لا يمكن أن تتحمله فرنسا في الوقت الراهن، وهو ما يأتي ليتسق أيضاً مع النهج الفرنسي في العراق.

وعلى الرغم من ذلك، تشير بعض التقارير إلى أن فرنسا ربما نحت إلى تقديم العون للقوى المناوئة لداعش عبر آليات أخرى منها مثلا دعم ما يعرف بـ "كتيبة الأشوريين الفرنسيين" التي تكونت في عام 2014 من مقاتلين أجانب مؤيدين للأشوريين الذين شكلوا لواء "دواخ ناوشا" لحمايه الأشوريين ومسيحي الشرق بشكل عام. وقد بدأت الكتيبة العمل بإرسال متطوعين وخبراء عسكريين فرنسيين (سابقين) إلى المناطق الأشوريه في سوريا، لمساعدة السكان المحليين في التدرب على السلاح للدفاع عن أنفسهم.

وبعد التطورات التي عرفتها المناطق الأشورية المنكوبة، مثل القصف والاغتصاب الجماعي وغيرها، تطور هدف الكتيبة بفتح الباب أمام المتطوعين للقتال ضد داعش. وتؤكد التقارير المعنية أيضاً أن هذه الكتيبة لا تقبل العنصريين أو المعادين للمسلمين والإسلام، ولتفادي أي إشكالات قانونية تقتصر التدريبات المقدمة لأفرادها على الرياضات القتالية.

الأسد والتوظيف السياسي لاعتداءات باريس

سارع الرئيس السوري بشار الأسد إلى توظيف التأثير السياسي للهجمات التي شهدتها باريس بهدف محاولة الاصطفاف مع الدول الغربية في فريق واحد في مواجهة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، فضلا عن الترويج لمقولاته بأن سوريا ضحية الإرهاب.

وقد أشار الأسد -خلال استقباله وفداً فرنسياً يضم عدداً من البرلمانيين والمثقفين والإعلاميين برئاسة عضو الجمعية الوطنية الفرنسية النائب تييري مارياني- إلى أن الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت العاصمة الفرنسية، باريس، لا يمكن فصلها عما وقع في العاصمة اللبنانية بيروت مؤخراً، وما يحدث في سوريا منذ خمس سنوات وفي مناطق أخرى، موضحاً أن "الإرهاب هو ساحة واحدة في العالم وأن التنظيمات الإرهابية لا تعترف بحدود". وصرح الأسد بأن "السياسات الخاطئة التي انتهجتها الدول الغربية، لاسيما السياسة الفرنسية إزاء ما يحدث في المنطقة، وتجاهلها لدعم بعض حلفائها للإرهابيين هي التي ساهمت في تمدد الإرهاب"، مشيرا إلى أهمية "اعتماد سياسات جديدة والقيام بإجراءات فاعلة لوقف دعم الإرهابيين لوجستياً وسياسياً، وصولاً للقضاء على الإرهاب".

تحركات فرنسا إزاء الملف السوري بعد اعتداءات باريس

طرح تنظيم "داعش" نفسه باعتباره الفاعل الرئيسي للأعمال الارهابية التي شهدتها فرنسا، ومن ثم كان طبيعياً أن تشمل التحركات الفرنسية في أعقاب تلك الهجمات توجهاً واضحاً نحو زيادة الانغماس في محاربة "داعش" بسوريا، فقد أكد رئيس الوزراء الفرنسي، مانيول فالس، على أنه "سيتم توجيه طلب للبرلمان لتمديد الضربات الجوية ضد تنظيم داعش الإرهابي في سوريا"، مشيراً إلى أن "هناك نقطتين على قائمة الأولويات في الأيام المقبلة، هما: تمديد حالة الطوارئ وتمديد الضربات الجوية الفرنسية ضد داعش في سوريا"، وأن "بلاده في حرب ضد داعش تدور على التراب الوطني وكذلك في الخارج بسوريا".

وسرعان ما تمت ترجمة هذه التوجهات بخطوات على أرض الواقع، ففي 15 نوفمبر الجاري (أي بعد يومين من هجمات باريس) قامت 10 مقاتلات فرنسية بإلقاء  20 قنبلة على مواقع لتنظيم "داعش" في الرقة. وأوضحت وزارة الدفاع الفرنسية أن الضربات التي نُفذت بالتنسيق مع القوات الأمريكية، استهدفت مركز قيادة تابع للتنظيم يُستخدَم أيضاً كمركز لتجنيد المتطوعين وتخزين الأسلحة والذخيرة، كما دمرت معسكراً لتدريب عناصر التنظيم الإرهابي.

ويمكن من خلال القراءة السريعة لمجمل التحركات الفرنسية في هذا الشأن الوقوف أمام عدد من الخلاصات، لعل أبرزها أن الضربات المكثفة التي قام بها سلاح الجو الفرنسي ضد "داعش" ربما تؤشر لمرحلة تحول نحو زيادة تعاون فرنسا العسكري مع الولايات المتحدة، خاصة في الحرب ضد تنظيم "داعش" في سوريا، لاسيما أن هذه الضربات جاءت بعد اتصالات مكثفة بين وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان ووزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر، حيث اتفق المسؤولان على اتخاذ "إجراءات ملموسة" بصورة مشتركة ضد "داعش".

من ناحية ثانية، وعلى الرغم من توقع زيادة كثافة ووتيرة الضربات الفرنسية الموجهة ضد "داعش" في سوريا على خلفية هجمات باريس، فمن غير المنتظر أن تؤدي تلك الهجمات إلى تغيير فرنسا لموقفها الرافض للتورط البري في الأزمة السورية، لاسيما في ظل تشابك الأوضاع وتعقدها في الأراضي السورية، فضلا عن الانطباعات السلبية التي مازالت ماثلة في الأذهان بخصوص التدخل البري الأمريكي في العراق وأفغانستان.

من ناحية ثالثة، ربما قد تدقع اعتداءات باريس فرنسا إلى التنازل عن مطلبها بتنحي الرئيس السوري بشار الأسد، باعتبار أن ذلك المطلب لم يعد صالحاً في ظل هذا الوضع المعقد الذي طالت تبعاته الأراضي الفرنسية، ومن ثم فربما تتجه فرنسا، ومعها الدول الغربية، إلى الإسراع في تبني الخيارات التي تساعد على إنهاء الأزمة السورية والتورط الغربي في الملف السوري. وبالطبع فإن ما تختاره فرنسا في هذا السياق من قرارات سيكون مهماً في تشكيل توجه الاتحاد الأوروبي بصفة عامة تجاه الأزمة السورية.