أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تكريس النفوذ:

السياسات الإيرانية في عراق ما بعد "داعش"

21 يوليو، 2014


تعتبر التطورات العراقية الأخيرة وسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على عدد من المدن العراقية ومنها الموصل، ثالث أكبر مدن، وتكريت وتلعفر والضلوعية التي تبعد نحو 90 كلم عن العاصمة بغداد، وكذلك السيطرة على المعابر الحدودية بين العراق وعدد من الدول الجوار كالأردن وسوريا، بمنزلة قمة جبل الجليد لبركان يغلي منذ سنوات في العراق.

فالعراق يعاني منذ عام 2003 وحتى اللحظة الراهنة أزمات متلاحقة ومتراكمة، على رأسها الأزمات السياسية الأمنية التي يمر بها منذ أكثر من عامين، نتج عنها تدمير للدولة الوطنية بكافة مؤسساتها وقيمها، وتكريس لحالة الشحن الطائفي والمذهبي العنيف بفعل سياسات الاحتلال الأمريكي، بل والنص على هذه الحالة صراحة في الدستور العراقي من خلال نظام محاصصة، ثم تأكيدها من خلال السياسات الممنهجة من حكومات العراق المتعاقبة منذ الاحتلال وأهمها حكومة نوري المالكي منذ عام 2006.

تركت هذه التطورات بصماتها الواضحة على الإقليم، فقد تغيرت ملامح استقرار المنطقة وقاعدة التوازنات الاستراتيجية فيها، وظهرت إيران مجدداً باعتبارها أحد أهم الفاعلين الإقليميين المؤثرين في الواقع العراقي، الأمر الذي دفعها إلى بحث عدد من الخيارات المحدودة في التعامل مع التطورات الراهنة في العراق حفاظاً على أجندتها ونفوذها فيه؛ وهو ما يطرح عدداً من التساؤلات حول أهم المواقف الإيرانية المعلنة وغير المعلنة من الأزمة العراقية الراهنة، والبدائل الاستراتيجية المطروحة أمام إيران للتحرك في العراق خلال الفترة القادمة.

المواقف الإيرانية من التطورات العراقية

يعد الحفاظ على أمن الحدود الإيرانية- العراقية من الثوابت الاستراتيجية الإيرانية في سياستها الخارجية، وهو ما يفسر المواقف الإيرانية الداعمة للحكومة العراقية في مواجهة (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام- داعش) بهدف تقويض سيطرته على مساحات واسعة من المناطق السنية. وقد تبنت إيران عدداً من المواقف والإجراءات المعلنة وغير المعلنة من الأزمة العراقية الأخيرة، يمكن الإشارة إليها فيما يلي:ـ

1 ـ المواقف المعلنة:

صرح الرئيس الإيراني حسن روحاني في 18 يونيو الماضي، بأن "إيران ستعمل على حماية المقدسات الشيعية في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء من الإرهاب والقتل"، حيث حاولت ايران استخدام الحجة الروسية نفسها مع شبه جزيرة القرم وحماية الجالية الروسية للتدخل في المشهد العراقي، وما يساعد إيران على ذلك قيام ما يسمى بالهيئة الشرعية التابعة لتنظيم داعش داخل مدينة الموصل بالإعلان عن هدم المراقد الدينية في المدينة خلال المرحلة القادمة، وكذلك تصريح الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، بأن "ما حدث في العراق هو نتاج طبيعي لحالة الاختلاف والانقسام بين القوى السياسية العراقية، ونتيجة لحدوث فجوة كبيرة بين الشعب العراقي ورئيس الوزراء نوري المالكي، مما سهل سقوط الموصل وغيرها من المدن العراقية في قبضة تنظيم داعش.

2 ـ المساعدة العسكرية المباشرة:

ذكرت بعض المصادر العراقية والغربية من بينها تقرير صحيفة صانداي تايمز البريطانية، قيام إيران بإرسال نحو 1500 عنصر من عناصر فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، من خلال دخول ثلاث وحدات من الفيلق إلى العراق عبر الحدود بين البلدين، وتحديداً من مدينة خانقين بمحافظة ديالى وسط العراق، بالإضافة إلى دخول 500 عنصر آخر إلى منطقة بدرة وجصان بمحافظة واسط العراقية، في ظل انهيار وتراجع القوات الأمنية العراقية أمام مقاتلي داعش.

ويمكن اعتبار مقتل شجاعت علمداري مورجاني، وهو عقيد طيار في الحرس الثوري الإيراني، في قضاء سامراء بمحافظة صلاح الدين، دليلاً واضحاً على حجم تغلغل إيران في الشأن العراقي، كذلك الإعلان عن مقتل ثلاث شخصيات أخرى من الحرس الثوري بحسب تقارير إعلامية إيرانية، كما أشارت بعض المصادر الإعلامية إلى أن قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني وصل إلى بغداد ورافقه ما يقرب من 150 قائداً عسكرياً وخبيراً أمنياً من الحرس الثوري لتقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي والعسكري للجانب العراقي.

3 ـ الوسائل الإعلامية:

قامت عدة وسائل إعلام ووكالات أنباء إيرانية بإضفاء صفة "داعش" على جميع المسلحين بمن فيهم أبناء العشائر السنية من المحافظات الست الذين قاموا بالتظاهر ضد سياسات نوري المالكي التي اعتمدت على التهميش والإقصاء، من أجل الحصول على إجماع دولي وإقليمي بأن كل ما تشهده العراق من تطورات يقع تحت مفهوم الإرهاب والتطرف، وهو ما برز في تصريح المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي في 28 يونيو المنصرم بأن "ما يحدث في العراق ليست حرب شيعية – سنية، إنما حرب بين الإرهاب ومعارضي الإرهاب".

4 ـ حذر ملحوظ من إمكانيات التدخل الأمريكي:

عارضت إيران وبشدة أي تدخل أمريكي في العراق، وهو ما عبر عنه المرشد الأعلى علي خامنئي في 22 يونيو، بتأكيده أن واشنطن تريد وضع العراق تحت سيطرتها، وأن الولايات المتحدة والدول الغربية تستغل الصراع في العراق كدعاية ضد العالم الإسلامي. يأتي الاعتراض الإيراني على التدخل الأمريكي بعد الانتقادات الواسعة التي تلقاها نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي من قبل الإدارة الأمريكية، وعلى رأسها الرئيس باراك أوباما وعدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي، كما أن احتمال عودة الوجود الأمريكي في العراق بصورة واسعة مرة أخرى سوف يحد من تحرك ونشاط الميليشيات الشيعية التابعة لإيران في العراق من جهة، وكذلك سيحد من حركة عناصر فيلق القدس داخل العراق من جهة أخرى.

5 ـ المساعدات غير المباشرة:

تحاول إيران الاعتماد على عدد من الميليشيات الشيعية الموالية لها في العراق مثل حزب الله العراقي، وعصائب أهل الحق، ولواء أبو الفضل العباس، من أجل حماية بغداد والعتبات الشيعية المقدسة من أي هجمات محتمله من تنظيم داعش. وقد استغلت إيران الدافع نفسه لتحريك وكلائها في العراق للقتال بجانب قوات بشار الأسد في سوريا، كما ساهمت إيران من خلال وكلائها في العراق في جهود تجنيد واسعة استمرت شهوراً عدة لحشد المقاتلين خلف شعار "الدفاع عن العراق"، وبناء عليه تأسست مجموعة جديدة، هي سرايا دافا الشابي أو ما يعرف بشركات الدفاع الشعبي، وبالإضافة إلى ذلك، أنشأت حركة الحق ميليشيا شيعية أخرى، وكذلك فعلت منظمة بدر، حتى أصبحت "اللجان الشعبية" واقعاً يعيشه العراق منذ إبريل 2014.

خيارات الحركة الإيرانية المستقبلية بالعراق

لاتزال الأوضاع العراقية الحالية تفرض عدداً من خيارات الحركة الإيرانية، في ظل تعقد وتشابك الأزمة، وما لها من تداعيات ليست داخلية فقط، بل وإقليمية أيضاً، وهو ما يمكن أن يدفع الجانب الإيراني لاتخاذ أحد هذه المسارات على المدى المنظور، من أجل الحفاظ على أدوات نفوذه ومصالحة الاستراتيجية في العراق، ومن أهم هذه المسارات ما يلي:ـ

الخيار الأول: استمرار دعم المالكي ومساندته:

وهو ذلك الخيار الذي حظي طوال الفترة الماضية بدعم إيران من أجل الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في العراق، في ظل وجود رئيس للوزراء موالٍ لها بشكل شبه كامل لإيران. وظهر هذا جلياً في موقف البلدين من الأزمة السورية، سواء من خلال الدعم اللوجستي والاقتصادي وبقوات الميليشيات الشيعية العراقية الموالية لإيران والمرسلة لسوريا، ما يعني أن تكون طهران أشد حرصاً على دعم المالكي، فالنزاع الداخلي في العراق يدور بالقرب من حدودها، ومن ثم استخدام ورقة الإرهاب من أجل تثبيت أركان حكم المالكي.

لكن هذا الخيار يواجه عدداً من التحديات، أهمها الوضع الاقتصادي الإيراني المتردي في ظل العقوبات الأمريكية والأوروبية، علاوة على الوضع السياسي غير المستقر بسبب الصراع بين الجناحين المحافظ والإصلاحي في إيران مثلما ظهر في الخلاف بين الرئيس حسن روحاني وقوات الحرس الثوري الإيراني على خلفية إدارة المفاوضات المتعلقة بالبرنامج النووي ووضعية إيران في الأزمة السورية، وكذلك الوضع الاجتماعي الإيراني المتشابك من جهة توزيع السكان بين العرقيات والإثنيات المختلفة بمن فيهم المكون السني.

الخيار الثاني: قبول مساعي احتواء الأزمة السياسية في العراق

يعد هذا الخيار متاحاً لإيران في حال استمرار تعقد الوضع السياسي الداخلي في العراق، وهو ما بدا واضحاً مؤخراً، حيث بدأت تتداول بعض الأخبار حول تفكير إيران في الاستجابة لمطلب تغيير رئيس الوزراء، نوري المالكي، ولكن دون السماح بأن يذهب المنصب خارج الكتلة المؤيدة لإيران أو التي يمكن أن لا تراعي المصالح الإيرانية في العراق بشكل أو بآخر.

ويعزز هذا الخيار رفض معظم القوى السياسية السنية والكردية، وبعض القوى الشيعية أيضاً، خيار بقاء المالكي لولاية ثالثة، وهو ما حرضت عليه تصريحات المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني، الذي طالب بضرورة حل مشكلة رئاسة الحكومة وفق مبدأ التغيير. ويمكن الإشارة هنا إلى وجود عدد من الشخصيات المطروحة بديلاً عن المالكي، من بينها رئيس المؤتمر الوطني أحمد الجلبي، وطارق نجم القيادي بحزب الدعوة والذي يحظى بقبول إيران، وعادل عبدالمهدي القيادي في كتلة المواطن التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم، وأخيراً إبراهيم الجعفري رئيس التحالف الوطني لما يحظى به من تأييد من عدد من الكتل السياسية الشيعية وإيران من ناحية أخرى، بيد أن هذا الخيار يفرض على إيران توخي الحذر والدقة في اختيار البديل المناسب لنوري المالكي، حتى لا تُسقِطَ إيران أحد أهم أوراق الضغط التي تملكها في المنطقة، وهي العراق، في ظل تعثر المشهد السوري وعدم، وضوح ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع هناك.

الخيار الثالث: التعاون مع الولايات المتحدة

يشير عدد من الأنباء المتداولة إلى إمكانية قيام الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل في العراق من أجل مواجهة داعش وحسم ملف التطرف والإرهاب هناك، لما لذلك من تداعيات مباشرة على المصالح الأمريكية في المنطقة. وتشير بعض التقديرات إلى وصول أول مجموعة من المستشارين العسكريين الأمريكيين إلى بغداد بهدف تحديد أماكن تمركز المسلحين وضربها بالطائرات بدون طيار في حال اتخاذ الإدارة الأمريكية قرار التدخل لمساندة العراق في مواجهة داعش، وكذلك إقامة مراكز عمليات مشتركة في بغداد والمحافظات الشمالية لتبادل المعلومات وتنسيق خطط لمواجهة مسلحي داعش، كما بدأ الطيران الأمريكي في 20 من شهر يونيو إجراء طلعات استطلاعية في الأجواء العراقية.

ويعد هذا الخيار محل اختبار ودراسة حتى تلك اللحظة، حيث تؤكد جولة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الأخيرة في المنطقة أن الولايات المتحدة تسعى إلى الحصول على أكبر قدر من التوافق الإقليمي والدولي، في ظل سيطرة داعش على عدد مهم واستراتيجي من المعابر الحدودية مع سوريا والأردن كمعبر الطرابيل والقائم والوليد، وهو الأمر الذي يمثل تهديداً مباشراً للأمن الإقليمي خاصة بالنسبة للأردن واحتمالات انتقال المعارك والتهديدات إليها. ويأتي هذا الخيار الأمريكي في إطار الاتفاقية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة، والتي تنص على تحمل الأخيرة المسؤولية عن توفير الحماية الكاملة للعراق من أي عدوان.

وهنا تدرك الولايات المتحدة مدى أهمية الجانب الإيراني عند التدخل لمعالجة القضايا والأزمات التي يواجهها العراق بصفة مستمرة، وهو ما جاء على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، حيث أشارت إلى استعداد الولايات المتحدة للتشاور مع إيران فيما يتعلق بالشأن العراقي، ولكن من جانب آخر طلبت من ايران معالجة المشكلات بأسلوب غير طائفي. بالتالي يمثل هذا الخيار فرصة لإيران من أجل فرض الحل الأمني والعسكري في العراق على غرار ما حدث في سوريا، أي استنساخ السيناريو السوري في العراق من ناحية، ولكنه يفرض عدداً من التحديات من ناحية أخرى، منها موقف الحرس الثوري الإيراني من إمكانية ظهور أي بوادر للتقارب الأمريكي الإيراني، وتحفظ الحرس الثوري على هذا النوع من التقارب لاعتقاده أنه يمس الأمن القومي الإيراني وبمبادئ الثورة الإسلامية الإيرانية، وكذلك التحدي المتعلق بمواقف دول الخليج العربية من هذا التقارب، وما يمكن أن تكون له انعكاسات على الأمن في منطقة الخليج العربي، على خلفية قلق وتحفظ السعودية على تقارب الولايات المتحدة وإيران بعد مجيء حسن روحاني إلى قمة النظام السياسي الإيراني، والتي ظهرت معه بوادر حلحلة الملف النووي الإيراني.

محصلة ما سبق أن العراق يمثل أحد أهم مناطق النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل عام، وتدرك إيران أن رحيل نوري المالكي يمكن أن يساعد في حل لحظي أو مرحلي للأزمة في ظل استمرار القيود التي تواجه المالكي على أي بديل في هذه المرحلة، كما تدرك إيران أنها لا يمكن أن تسقط العراق من حسابات أوراق الضغط الخاصة بها، ليس فقط لأهميتها الاستراتيجية، ولكن لأن حكومة حسن روحاني سوف تحاسب من ناحية أخرى على مدى نجاحها في نطاق تطبيق السياسة الخارجية الإيرانية. وعلاوة على ذلك، فإن استمرار ارتباط التعامل مع التطورات العراقية بمجريات سير عملية التفاوض النووي الإيراني مع الغرب، وما يمكن أن تحصل عليه ايران من امتيازات إقليمية تسمح لها بإعادة التموضع في المنطقة هو قضية في صلب الأزمة العراقية الراهنة.